التاريخ: تموز ٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
ترامب بوصفه طبعة ثانية من تافت - محمد سيد رصاص
في ذروة الحرب العالمية الثانية قال هنري لوس مؤسس مجلة «تايم»: «القرن العشرون سيصبح القرن الأميركي بلامنازع». كان الاشتراك الأميركي في الحرب أساسياً لهزيمة الألمان واليابانيين، ثم استطاع البيت الأبيض هزيمة الكرملين في الحرب الباردة. لم يكن كل اليمين الأميركي مع ما تضمنته عبارة هنري لوس، بل، للدقة، كان معظم اليمين ضد الانخراط في قضايا العالم القديم ومغادرة مبدأ مونرو عام1823 الذي قال بحصرية الاهتمام الأميركي في العالم الجديد للأميركيتين ومنع الأوروبيين من التمدد هناك. الحرب الأميركية- الإسبانية عام1898 لم تكن خرقاً لمبدأ مونرو بل تطبيقاً له. كان الخرق الأول دخول واشنطن عام1917 في الحرب العالمية الأولى، ثم عادت الولايات المتحدة إلى انزوائها عندما رفضت الدخول في عصبة الأمم والانخراط في الشؤون الأوروبية.

عندما بدأت الحرب العالمية الثانية في 1 أيلول (سبتمبر) 1939 تزعّم السناتور الجمهوري اليميني روبرت تافت في مجلس الشيوخ تحالفاً عابراً للجمهوريين والديموقراطيين ضد الانخراط بالحرب. الهجوم على ميناء بيرل هاربور في 7 كانون الأول (ديسمبر)1941 جعل رياح الرئيس فرانكلين روزفلت الراغب في الانخراط بالحرب ضد هتلر واليابانيين تسود في واشنطن وخفت صوت تافت. عندما انتهت الحرب كان تافت ضد إقراض واشنطن لندن مالياً وضد مشروع مارشال وضد حلف الأطلسي وضد الاشتراك بالحرب الكورية وضد الحرب الباردة مع السوفيات. كان فشل تافت في نيل ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة في 1952 أمام دوايت أيزنهاور هزيمة لليمين الأميركي الانعزالي أمام يمين جمهوري أميركي جديد يطمح إلى قيادة العالم عبر هزيمة السوفيات. كان اليميني رونالد ريغان هو الذي قاد تحقيق تلك الهزيمة. ثم أفرز الجمهوريون مع جورج بوش الابن، ومحافظيه الجدد، ذروة الهجومية الأيديولوجية اليمينية عبر غزو أفغانستان2001 والعراق 2003.

في عام 2016 قدم الحزب الجمهوري الأميركي طبعة ثانية من روبرت تافت هو دونالد ترامب: ضد الأمم المتحدة، ضد اتفاقيات التجارة الحرة مع الخارج، ضد الحلف الأطلسي، وضد أي التزام عسكري أميركي في الخارج. نالت هيلاري كلينتون أصوات الولايات الغنية في الساحلين الشرقي والغربي فيما نال ترامب أصوات الداخل الأفقر. كان اليميني الجمهوري معبراً عن فقراء وعن فئات وسطى متضررة اقتصادياً بينما كانت قاعدة الأصوات لدى الليبرالية الديموقراطية، وهي بالعرف الأميركي يساراً، عند الأغنياء والمرتاحين اقتصادياً. كان كبير إستراتيجيي حملة ترامب ستيف بانون المعبر الأيديولوجي عن هذا اليمين الجديد.

على الأرجح أن مصطلح «القومية الاقتصادية» يلخص هذا اليمين ويكثّفه: الحمائية الجمركية، ضد اتفاقيات التجارة مع الخارج، جذب الشركات الأميركية للداخل بعيداً من الخارج. وإذا انضافت عدائية هذا اليمين لفتح أبواب الهجرة، مع العداء للإسلام والصين، يمكن أن تتحدد ملامحه الرئيسية. لكن هذا ليس كافياً، حيث تنضاف إلى ما سبق نزعة ترى أن مجال الاقتصاد الأميركي هو الحدود القومية وليس العالم، وأن العولمة الاقتصادية أفادت غير الأميركي على حساب الأميركي الفقير.

هذا النموذج الذي اسمه دونالد ترامب لا يشبه الجمهوريين دوايت أيزنهاور وريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وجورج بوش الابن. كان هؤلاء مع التدخل في الخارج، بينما اشتغل جيمي كارتر على إيقاع هزيمة فيتنام وكان أقل هجومية تجاه السوفيات بالقياس للجمهوريين، وأقل انخراطاً في الشؤون العالمية مع اتجاه انكفائي نحو الداخل في ظرف أزمة النصف الثاني من السبعينات الاقتصادية الأميركية.

يمكن أن يكون ترامب محيراً أو مكسراً لمجاذيف الكثير من المحللين اليساريين أو الليبيراليين الجدد الذين أراقوا أطناناً من الحبر منذ التسعينات وهم يتحدثون عن العولمة الزاحفة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وكيف أن «الحدود القومية قد انتهت» وكيف «تحول العالم إلى قرية إلكترونية». لم ينتبهوا لمقال صموئيل هنتنغتون: «صدام الحضارات» عام 1993، وغالباً استنكروه في نزعة تطيرية فكرية تجاه فكرة مفزعة بحقيقتها، فيما لاقى الهوى أو الرغبوية الفكرية عندهم مقال فرانسيس فوكوياما: «نهاية التاريخ» عام 1989. كان اليساريون في موقع ضد العولمة فيما الليبراليون الجدد معها. الإثنان الآن في موقع لا يستطيعان فيه تفسير ظاهرة ترامب ولا فك طلاسمها. يمكن أن يكون البنكي النيويوركي الكوزموبوليتي والعالمي النظرة والاهتمام أسهل للتفسير وفق أدواتهما المعرفية، أما يميني أميركي مع «القومية الاقتصادية»، يسعى لجذب البنكي النيويوركي إلى كليفلاند ونبراسكا بدلاً من شنغهاي ومومباي وبرلين، فهو أمامهم بمثابة كلمات متقاطعة من دون دليل.

في المقابل هناك يمينيون معاصرون لترامب، مثل مودي رئيس الوزراء الهندي أو مركل المستشارة الألمانية أو الرئيس الروسي بوتين، ليسوا مثل الرئيس الأميركي مع إغلاق نوافذ بيوتهم الاقتصادية في وجه الخارج. يفسر هذا بأن هناك فوائد اقتصادية تجنيها البلدان الثلاثة من العولمة. ليس هذا على ما يبدو الرأي السائد في واشنطن الآن حيث الولايات المتحدة هي الرقم الاقـــتصادي العـــالمي الأول ثم تأتي الصين بعدها بأشواط بعيدة وحيث فتح الشيوعيون الصينيون منذ دينغ شياو بينغ في أوائل الثمانينات النوافذ الاقتصادية الداخلية أمام الخارج الرأسمالي فيما كان ماوتسي تونغ (1949-1976) مع إغلاق النوافذ الاقتصادية على خطى صاحب نظرية الاشتراكية في بلد واحد، جوزيف ستالين، ضد تروتسكي الذي كان يرى ما فوق قومية البناء الاشتراكي تماماً مثل الرأسمالية التي «تخلق عالماً على صورتها ومثالها» وفق تعبير كارل ماركس في «البيان الشيوعي».