التاريخ: تموز ٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
هل يحتاج الاستسلام إلى تفاوض؟ - سميرة المسالمة
هل يستحق ما يتم التفاوض عليه بين النظام السوري والفصائل المسلحة سبع سنوات من الحرب الدامية، وأكثر من مليون شهيد وضحية ومثلهم جرحى ونحو نصف الشـــعب السوري مشردين ولاجئين ونازحين؟

ما الذي يمكن تقديمه من مبررات للمشردين على الشريط الحدودي اليوم، من نساء وأطفال يفترشون شوك الأرض، ويلتحفون انتقام السماء تحت الشمس، وبين الوديان، يفترسهم الخوف المجهول المصدر، حيث تعدَّدَ الأعداء وتلونت راياتهم، برغم أن مشهد الموت و «شبه الحياة» في ظلهم وظلمهم واحد؟

هل يمكن اعتبار الأطراف المسلحة هي المقابل الموضوعي للنظام، أي أنها الطرف الممثل لثورة شعب نادى بالخلاص من هيمنة العسكر فوجد نفسه رهينة المحبسين بين عسكر النظام وعسكر «الدول الداعمة» مع النظام أو ضده؟

ثمة حقيقة لم يدركها من حمل السلاح بعيداً من المشروع الوطني لثورة تدافع عن كرامة الناس وحضارتهم ومستقبلهم، أن هذه الثورات لا تتساوق في مفهومها مع مفهوم أجندات الجهاد والارتهان واستلاب القرار، وعليه فإن أخذها إلى هذا الطريق كان مشروع اغتيال تتوضح اليوم معالمه والضالعون فيه والمستفيدون منه، وفي مقدمهم النظام.

ربما ليس من غريب القول الاعتراف: بأن العملية السياسية لحل الصراع السوري فقدت أساسياتها القائمة على وجود طرفين، أحدهما ند للآخر، بحسب القوة القانونية للقرارات الدولية التي أقرت بالتفاوض على هذا الأساس، للوصول إلى حل بالتراضي بينهما، وفقاً لما أقره بيان جنيف1، والقرارات الأممية اللاحقة، وصولاً إلى القرارين 2254 و 2401، أي أن المفاوضات تعني وجود طرفين متقابلين، على طاولة لحل النزاع، بغرض الوصول إلى حلول تحقق أهدافاً تتقاطع فيها الرغبات الوطنية، وصولاً إلى تسوية لا غالب فيها ولا مغلوب من أي من الأطراف المتنازعة، وتحقق ما تمكن تسميته فضاء قابلاً لعيش الجميع، أفراداً وجماعات، وبالتساوي، وتحت مظلة الانتقال الديموقراطي الذي اتخذته الثورة شعاراً التفت حولها بناء عليه شرائح المجتمع السوري بمختلف انتماءاتها الدينية والقومية والفكرية، وهو الذي أقرت به القرارات الدولية التي زاد عددها عن 17 قراراً أممياً.

وإذا كان علينا أن نعترف بأن النظام الذي جر الثورة في بداياتها إلى حمل السلاح تحت ضغط العنف الممارس على الثائرين وعلى ذويهم، هو ذاته النظام الذي سهل الطريق للحركات الجهادية لتنظيم نفسها، عبر فتح أبواب معتقلاته لقادتها، وتحرير مساحة حركتهم وحراكهم داخل سورية وخارجها، والدخول ضمن منظومة الفوضى السورية العارمة، بينما هيأ هو نفسه لأخذ دور المدافع عن بلاده ضد الإرهاب الذي تمثله هذه الحركات الجهادية، في فرصة وفرتها هي له، وعملت على تصاعد وتيرتها حتى جاء موعد المصالحة، التي يغطيها بعضهم تحت مسمى «مصالحة وطنية» وهي في حقيقة الأمر «مصالحة شخصانية» عقدت على مرحلتين:

- بالنسبة إلى الفصائل المؤدلجة، تم عقد الصفقة قبل إطلاق سراح مؤسسي هذه الجماعات، بهدف الوصول بالثورة إلى حافة الانتحار على يد قادتها المرتبطين أساساً بالفروع الأمنية للنظام، وهذا بدا بشكل واضح في حلب والغوطة والريف القلموني، حيث تم كشف الغطاء عن عملاء للنظام من جهة، وتراخي قادة آخرين بخروجهم ضمن عملية الاستسلام بما يحملون من ثروات، تاركين الشباب المقاتلين دفاعاً عن ثورتهم المؤمنين بها، لمصير القتل أو السَّوق إلى الخدمة الإلزامية، لاستخدامهم دروعاً بشرية في حرب النظام ضد معارضيه، كما هو حاصل اليوم في درعا.

- أما الفصائل المرتهنة لهذه الدولة أو تلك، فقد استولت هذه الدولة على قراراتها لاحقاً بفعل ارتهان قادتها، حيث اعتمد النظام على خطة «قطع السبب»، أي أن الدول المتصارعة على سورية حصلت على صفقات مباشرة مع النظام تنهي سبب تبنيها هذه الفصائل التي يمكن تعميم صفة «المأجور» على قادتها وليس عوامها، حيث تم الفصل أفقياً وعمودياً داخل الفصائل بين القادة والمقاتلين ميدانياً، للتعتيم على حقيقة الأجندات التي يعمل بموجبها القادة «المعينون»، وعلى حقيقة الموارد المالية التي جعلت من أكثرهم أثرياء في زمن الحرب، ينافس بعضهم رموز الفساد في النظام قبل الثورة وخلالها.

وعلى ذلك، فإن قرارات المصالحات أو التسويات التي تتم اليوم «زوراً» تحت مسمى مفاوضات، لا تمت إلى العملية السياسية أو الحل السياسي المنصوص عليه في القرارات الدولية بأي صلة، بل هي تقوض -إن لم تكن تنهي- هذه المرجعيات الدولية، وتُسقط الثورة في خانة الاعتراف بالذنب الذي يرقى إلى ما تتمخض عنه بنود التسويات، وهو مطلب «محاكمة الثورة» كفعل تخريبي، ما يعني هدر تضحيات السوريين التي ألزمت العالم على الاستدارة إلى مطالبهم والإقرار بحق تقرير مصيرهم عبر عملية انتقال سياسي، من دولة استبداد إلى دولة ديموقراطية تعددية. والمؤلم اليوم أن هذه النهاية الدراماتيكية لمآل المفاوضات تكتبها الجهة غير المخولة بها من فصائل مسلحة محسوبة على المعارضة.

مرت سنوات الحرب ولم يكن للمدنيين فيها غير مكان الضحايا، فحيث تجاهل النظام مفاعيل الحرب عليهم كانت الفصائل الوجه الآخر للاستبداد، سواء تحت شعارات دينية أو تلك «الثورجية»، ما جعل من المدنيين كتلة حيادية غير قادرة على التمييز بين قادة نظام وقادة مصالح، وبينما تأخذ التسويات طريقها عبر التفاهمات الدولية، يدفع من جديد المدنيون بموتهم وتشردهم وخراب ديارهم أثمانها الباهظة، فهم وقودها حرباً وسلماً، ودماؤهم مدادها حين يحين الشوق لكتابة رسائل لبلدان الجوار وما خلف البحار.

وفي الوقت الذي يغازل النظام مشاعر الحكومات المتطرفة في الغرب الرافضة وجود اللاجئين، عبر نداء يوجهه إلى المواطنين السوريين في بلاد اللجوء والنزوح، للعودة إلى وطنهم «الآمن» سوريا، يمنع على السوريين المشردين (زاد عددهم على 300 ألف) من مدن حوران وقراها دخول مناطق نفوذه، تحت شعار ترهيب الجوار والغرب من موجة لاجئين جدد، في رسالة تؤكد سابقاتها في قدرته على إغراق العالم بالفوضى.

وختام القول أن ما يطلبه النظام هو الاستسلام، ومن يرغب به لا يحتاج إلى تفاوض، حيث لا درجات تقلل ألمه أو تزيده، وحيث غاب حق المدنيين في الحرب فهو لن ولم يكن سبباً في استسلام أحد، وإنما هو قرار إما أن تبقي التفاوض لأهله فيحافظون به على مطالب الثورة في مشروعها الانتقالي نحو الديموقراطية، أو تستسلم، وهذه الأخيرة لا حقوق فيها غير حق القوة التي يمارسها النظام منذ عقود ضد شعبه.

* كاتبة سورية