التاريخ: حزيران ٢٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
حال الفلسطينيين العيش في الأزمات - ماجد كيالي
مع ما يسمى «صفقة القرن»، وجمود التسوية، وأفول خيار الدولة المستقلة، والتحدي المتعلق بمكانة القدس، واستشراء الاستيطان في الضفة، وحصار غزة، ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية، وقبل كل ذلك حال الانقسام بين سلطتي الضفة وغزة، أو بين حركتي فتح وحماس، وغياب إجماع وطني، حول الهدف، وتعثّر النظام السياسي، وإخفاق أشكال الكفاح، وغياب مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في البلدان العربية، يجد الفلسطينيون أنفسهم إزاء أزمات صعبة ومعقدة، وفوق قدرتهم على التحمل أو المواجهة. مع ذلك فإن الحديث عن أزمات عند الفلسطينيين بات أمراً عادياً، إذ أن تاريخهم كشعب، بما في ذلك تاريخ حركتهم الوطنية، هو بمثابة تاريخ لأزمات متواصلة، تعيد إنتاج ذاتها، في شكل أو في آخر، فمن النكبة الأولى (1948)، وواقع التشرد والحرمان من وطن وهوية، وتمزق الإطار الاجتماعي، لثلثي شعب فلسطين، وقتها، إلى النكبة الثانية (1967)، التي تمكّنت فيها إسرائيل من سلب باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة والقطاع)، والسيطرة على الفلسطينيين في هذه الأراضي. طبعاً يأتي ضمن ذلك التداعيات الناجمة عن هذه النكبة أو تلك، خصوصاً تجزئة شعب فلسطين، وإخضاعه لسلطات وأوضاع قانونية متعددة ومتباينة، وطريقة تعامل النظام العربي السائد معه، وصولاً إلى تدمير عديد من مخيماته (في لبنان وسوريا)، وتعريضه لتشريد ثان، ربما أقسى وأصعب، كما حدث مع فلسطينيي العراق ولبنان وسوريا أخّيراً.

أيضاً، على صعيد حركتهم الوطنية ثمة، اليوم، أزمة بالغة التعقيد والخطورة، إذ أن تلك الحركة انتقلت من كونها حركة تحرر وطني، في الخارج، إلى سلطة في جزء من الأراضي المحتلة، لكن قبل زوال الاحتلال، أو كسلطة تحت الاحتلال، مع جزء من حقوق، بصيغة كيان هش، وتابع، هو أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، لجزء من الشعب، لا سيما مع انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية إلى الداخل، وفق المعطيات المذكورة، وتهميش منظمة التحرير، التي ظلت لزمن طويل بمثابة الكيان السياسي المعنوي لشعب فلسطين، والمعبر عن قضيته وكقائد لكفاحه، في مختلف أماكن تواجده، في واقع سلطة تحت سلطة الاحتلال، أو سلطة ليس لها سلطة، وفق تعبير للرئيس الفلسطيني ذاته.

هكذا، مثلاً، تواجه القيادة الفلسطينية، أو الحركة الوطنية الفلسطينية (إن جاز التعبير)، اليوم، عدة أزمات، أو مخاطر، أو تحديات، يكمن أولاها، في جمود النظام السياسي الفلسطيني، بحيث أن أزمته باتت مرتبطة بشخصية الرئيس محمود عباس، بسنّه وصحّته، وبافتقاد هذا النظام لآليات التجديد، وللحراكات الداخلية، وللحياة المؤسسية والتشريعية والديمقراطية، وغياب إجماعات وطنية، إن بخصوص الكيان السياسي الجامع أو بخصوص الخيار الوطني.

معلوم أن الحديث يدور هنا عن حركة سياسية، هي الأطول بين مثيلاتها العربيات، أي عن حركة سياسية ذات تجربة طويلة ومعقّدة وغنية، كما يتعلق بمكانة الرئيس كرئيس للسلطة والمنظمة، إذ أن التماهي بين الرئاستين هو أحد أهم أسباب أزمة الحركة الوطنية والنظام السياسي الفلسطينيين، فعلى رغم أن المجلس الوطني، الذي عقد قبل شهرين، أحال صلاحياته إلى المجلس المركزي، إلا أن هذه الإحالة بالذات تنمّ، أيضاً، عن عجز وقصور النظام السياسي الفلسطيني، ويحتسب في هذا الإطار افتقاد الكيانات السياسية (لا سيما المنظمة والسلطة)، لآليات الشرعية والمأسسة، سيما بعد أن انتهت آجالها الدستورية، وحال التقادم والترهل والتآكل في بناها، وفي شعاراتها وأدوارها.

فوق كل ذلك فإن ما يفترض إدراكه هنا أن معضلة الكيانات السياسية عند الفلسطينيين لا تتوقف على الشرعية، وتكلس البني القائمة، فما يفاقم من كل ذلك في حقيقة الأمر، أيضاً،إنها مرتبطة بأفول المشروع الوطني الفلسطيني، وإخفاق الخيارات السياسية التي أخذتها حركتهم الوطنية على عاتقها، وضمنها خيار التسوية، والارتهان مشروع الدولة في الضفة والقطاع، كما الارتهان لخيار المفاوضة أو لخيار الكفاح المسلح. ثاني هذه التحديات يكمن في الاعتمادية في الموارد على الخارج، وحتى أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها المنظمة والسلطة والفصائل، بنت أوضاعها وضخّمت أجهزتها، تبعاً لتدفّق تلك الموارد، ما جعلها رهينة لها، أي للدول المانحة، أرادت ذلك أم لم ترد. طبعاً ثمة كثر في الساحة الفلسطينية، من قياديين وفصائل، يتحدثون عن مخاطر تلك الاعتمادية، بيد أن ثمة انفصام كبير بين هكذا حديث، الذي يطرح، على الأرجح، من باب الاستهلاك أو التمني أو المزايدة، وفق طبيعة الحال، أو وفق الدور، وبين الواقع والمواقف الفعلية.

هكذا فقد شهدنا أن حركة حماس، أو الجبهة الشعبية، مثلاً، تنتقد كل منهما الاعتمادية على الخارج، في حين أن كل منهما، أيضاً، تطالب القيادة الفلسطينية، وهي هنا قيادة المنظمة والسلطة وفتح، بحصتها (وفق «الكوتا») من الصندوق القومي، لتغطية موازناتها ورواتب المتفرغين فيها، علماً أنها تعرف أن تلك الأموال تأتي من الدول المانحة، التي تدعم عملية أوسلو، والتي ترفض المقاومة جملة وتفصيلاً، وترفض أي مساس بوجود إسرائيل. ونحن نعرف أن عملية المصالحة الفلسطينية، بين سلطتي الضفة وغزة، ارتهنت، وتالياً توقفت بسبب الخلاف حول تغطية رواتب حوالى 40 موظفاً عينتهم حماس في السلطة في غزة، بعد هيمنتها الأحادية والإقصائية على القطاع (2007)، علماً أن مجمل موظفي السلطة يناهز على 160 ألفاً، ما يعني أن ثمة 200 ألف موظف، أو ربع مليون مع المتفرغين في الفصائل، وهو أمر يفيد بأن ثمة حوالى مليون من الفلسطينيين يعيشون على الموارد الخارجية.

والحال فكيف للقيادة الفلسطينية أن تواجه صفقة القرن، والولايات المتحدة، بوضعها هذا؟ أو بعد أن أثقلت نفسها، بتلك التبعية، وبتلك الوظائف، علماً أن الولايات المتحدة تقدم مساعدات تبلغ 10 بالمئة من موازنة السلطة (قدرها 4 بلايين دولار سنوياً)، ومثل ذلك تقدمه من طريق وكالة الغوث (بمجموع قدره 800 بليون دولار)، في حين تأتي نصف الموازنة من اتفاقات «المقاصة» الضريبية مع إسرائيل، ما يجعلها في موقع قوة وضغط على الفلسطينيين؟

ثالث تلك التحديات والمخاطر ناجم عن حال الانقسام الفلسطيني، والخلاف بين فتح وحماس، وهو أمر بات له 12 عاماً، والذي لا يبدو أن له حلاً، في ظل تحول الحركتين إلى سلطة، في المنطقة التي تسيطر عليها، حيث حماس في غزة وفتح في الضفة، مع التأكيد بأن لا أحد يستفيد من الإجراءات «العقابية» على أي فئة من غزة سوى الاحتلال، وأن ذلك لا يؤدي إلا إلى زيادة الشرخ بين الضفة والقطاع، ناهيك أنه يؤدي إلى مزيد من غرف الحركتين المهيمنتين.

الأهم من هذا وذاك، أيضاً، نشوء وقائع تدفع الفلسطينيين لاعتبارهم كأنهم بمثابة شعوب عدّة، بأولويات وحاجات مختلفة ومتباينة، وهو ما تجلّى، مثلاً، في ضعف علاقات التعاضد، وضعف التضامن، مع الأهوال التي عانى فلسطينيو سوريا منها، وضمنها التشريد وتدمير بعض مخيماتهم، لا سيما اليرموك، عاصمة اللاجئين الفلسطينيين وعنوان حق العودة، وهو ما تعرض له قبلهم فلسطينيو العراق، وهو ما تكرر أيضا في ضعف الإسناد لفلسطينيي غزة، الذين يعانون منذ 12 عاماً الحصار، من قبل أطراف عديدة، بينها إسرائيل، فأقم منها إجراءات القيادة الفلسطينية العقابية، علماً أن هؤلاء خاضوا وحيدين تقريباً الحراكات الشعبية والسلمية للتعبير عن حق العودة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من مئة شهيد وألوف الجرحى، وهو ما حصل سابقاً في الحراكات التي قادها شعبنا في القدس، إذا استثنينا مظاهرات حيفا ورام الله على سبيل المثال. وبغض النظر عن مدى جدوى تلك الحراكات، أو توظيفها من قبل حركة حماس، فإن تلك الحركة مسؤولة عما وصل إليه الفلسطينيون في غزة، كما تتحمل مسؤولية تسهيل الاستفراد الإسرائيلي بالقطاع، بسبب هيمنتها عليه، وطريقتها في إدارته، وشكل صراعها مع إسرائيل. وهذا يعني أن إجراءات السلطة العقابية غير صحيحة، وليست ذات جدوى، وأنها تضر بالفلسطينيين، وبمكانة القيادة الفلسطينية ذاتها، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، ويأتي في ذلك قمع المظاهرة المشروعة في رام الله، التي خرجت للتضامن مع غزة.

ثمة كثير من الأزمات التي تواجه الفلسطينيين، لكن أزمتهم الأساسية تتعلق بالفجوة الكبيرة بينهم وبين إسرائيل، في الإمكانيات والقوى والمعطيات المساندة الدولية والإقليمية والعربية، كما بطريقة إدارة الصراع، واستثمار الموارد، كما أنها تستمد بعضاً من قوتها من تشرد الشعب الفلسطيني، وتمزق وحدته، وافتقاد كياناته للمشروع الوطني وللحياة السياسية بمعنى الكلمة، يحصل كل ذلك مع تزايد شعور الفلسطينيين بالخذلان والضياع والإحباط، مع إحساسهم بالحاجة إلى مرجعية شاملة تجمعهم، وتعيد إليهم اعتبارهم كشعب واحد، على رغم كل ما يتعلق بتباين أوضاع وأولويات مجتمعاتهم، في الأراضي المحتلة (48 و67) وفي بلدان اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر، وبلدان الشتات.

* كاتب فلسطيني