التاريخ: حزيران ١٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
الانتخابات تنهِك العراق بمزيد من الأزمات - كامران قره داغي
بدايةً لا يسعى هذا المقال إلى تبرئة المفوضية العليا «المستقلة» للانتخابات في العراق. فهي ليست هيئة مستقلة ولا نزيهة كما ينص قانونها، وبالتالي فإن اتهامها بالتلاعب بنتائج الاقتراع له ما يبرره تماماً. نقطة على رأس السطر.

لكن ما سلف لا يعني تبرئة البرلمان العراقي المنتهية ولايته من مسؤوليته عن أزمة ما بعد الانتخابات التي يواجهها العراق وتهدد بخطر فراغ دستوري، فيما لا يبدو في الأفق ما يشير إلى قدرته على الخروج منها سالماً. فهذا البرلمان نفسه هو الذي أقر تشكيل المفوضية وصادق على تسمية أعضائها الذين لم يتم اختيارهم على أساس الخبرة القانونية والاستقلال، بل على أساس انتمائهم إلى الجماعات التي رشحتهم وولائهم لها. وهذا البرلمان نفسه أقر فرز الأصوات بالعد الإلكتروني وعاد ليصر على ضرورة إعادة الفرز بالعد اليدوي بعدما خسر غالبية أعضائه مقاعدهم البرلمانية. إلى ذلك رفض البرلمان وقتها بشدة إشراف القضاة على العملية الانتخابية، فإذ به الآن بعد هزيمته يقرر اعتماد مشروع قانون لحل المفوضية وتعيين قضاة بدلاً من أعضائها لإجراء عملية إعادة الفرز.

كيف يمكن لبرلمان منحل أن يواصل أعماله على رغم انتخاب برلمان جديد؟ من غرائب قوانين العراق التي تتسبب عادة في خلق الأزمات بدلاً من حلها أن دستور البلاد يسمح ببقاء برلمانه وممارسته مهماته لفترة قد تصل إلى أشهر بعد انتخاب برلمان جديد، إذ تنص المادة 56 من الدستور على أن «تكون مدة الدورة الانتخابية لمجلس النواب أربع سنوات تقويمية، تبدأ بأول جلسة له، وتنتهي بنهاية السنة الرابعة». هذا يعني أن البرلمان الحالي باق حتى نهاية الشهر، ومن السخرية أن يستمر برئاسة سليم الجبوري على رغم أنه ونائبه الأول همام حمودي وغالبية نوابه خسروا مقاعدهم البرلمانية في الانتخابات.

في الديموقراطيات البرلمانية يصبح البرلمان منحلاً ويفقد شرعيته حالما يُعلن إجراء انتخابات جديدة وفقاً للقانون. في بريطانيا مثلاً يعتبر البرلمان منحلا قبل إجراء انتخابات جديدة بخمسة وعشرين يوماً. ويوضح القانون البريطاني أنه بحل البرلمان فإن جميع مقاعده تصبح شاغرة، وبالتالي لن يكون هناك أعضاء فيه فيفقدون حصانتهم وامتيازاتهم مما يتمتع به النائب ويعودون مواطنين عاديين. ويمنح القانون أعضاء البرلمان المنحل فرصة لا تتجاوز بضعة أيام للدخول إلى مكاتبهم داخل البرلمان لغرض إخراج أوراقهم الخاصة، لكن من دون الحق في استخدام خدمات البرلمان اعتباراً من الساعة الخامسة مساء يوم حله.

في الأثناء يسعى الجبوري مدعوماً من بقية الخاسرين إلى استخدام كل وسيلة، قانونية وغير قانونية وحتى تآمرية، لإلغاء نتائج الانتخابات، كلياً أو جزئياً، بأمل الاحتفاظ بكراسيهم أطول مدة ممكنة، مع ما تتيحه هذه الكراسي من امتيازات سخية، والأهم التأثير في القرار السياسي وفقا لمبدأ المحاصصة الطائفية. وفي تطورات ما بعد الانتخابات، وبعضها يبدو كأنه جزء من مسلسل فيلم خيالي، نشوب حريق غامض في مخازن تحوي صناديق الاقتراع انتظاراً لتدقيقها في جانب الرصافة من بغداد، ويبلغ تعداد الناخبين فيها نحو ثلاثة أرباع إجمالي الناخبين في محافظة بغداد. ويعتقد أن الحريق التهم أيضاً معدات لعد الأصوات تبلغ قيمتها ملايين الدولارات.

المهزلة في ما سلف أن البرلمانيين الخاسرين الفاقدين للشرعية يحالفهم النجاح بعدما تبنى القضاء مشروع قانون أقره البرلمان المنتهية ولايته بإلغاء النتائج وإعادة الفرز بالعد اليدوي في مناطق عدة، فيما يبدو موقف رئيس الوزراء حيدر العبادي مهزوزاً بعدما جاءت قائمته الانتخابية «النصر» في المركز الثالث، وهي نتيجة خيبت أمله بالحصول على المركز الأول معتقداً أن ارتباط هزيمة «داعش» بشخصه من شأنه أن يضمن له النتيجة المرجوة.

فوق ذلك سارع القضاء إلى تنفيذ مشروع القانون من دون أن يصدر به مرسوم جمهوري يصادق عليه كي يصبح قانوناً، إذ هو لا يكتسب الشرعية إلا بعد نشره في جريدة «الوقائع» الرسمية كما ينص عليه الدستور. في غضون ذلك ينشط بازار الصفقات بين القوائم الانتخابية في مساع لتقاسم المكاسب والكراسي على أساس المحاصصة التي تبرأت منها الجماعات السياسية زوراً خلال الحملة الانتخابية. حتى كتابة هذه السطور أعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، راعي قائمة «سائرون» التي حصلت على أعلى الأصوات، تحالفه مع قائمة «النصر» التي جاءت في المركز الثاني ويتزعمها قائد الحشد الشعبي القريب جداً من إيران هادي العامري. الصدر هو نفسه الذي هاجم حيدر العبادي عشية الانتخابات لتحالفه، الذي لم يعمر طويلاً، مع قائمة «الفتح» ملمحاً إلى طائفيتها!

تفاقم أزمة ما بعد الانتخابات بات يهدد بلجوء تشكيلات «الحشد»، التي تخضع لمراجعها السياسية وتحتفظ بأسلحتها الخفيفة والثقيلة، إلى استخدامها لتحقيق أهداف سياسية. وكان العبادي اعترف في أحدث تصريحاته قبل أيام بوجود «نحو 100 فصيل» مسلح في بغداد «تدعي أنها حشد شعبي وهي ليست حشداً شعبياً». جاء تصريحه في أعقاب انفجار أكداس للعتاد قبل أيام، تعود لمجموعة مسلحة في مدينة الصدر شرقي العاصمة، وهي معقل الصدر الذي كان بين أوائل الجماعات الشيعية التي شكلت فصائل مسلحة بعد إطاحة النظام البعثي في 2003، ابتداء بـ «جيش المهدي» الذي لم يرفع السلاح ضد الاحتلال الأميركي فحسب بل استخدمه في الوقت نفسه لترسيخ معاقله ضد خصوم التيار، وانتهاء بـ «سرايا السلام» في إطار «الحشد الشعبي». خطورة السلاح خارج سيطرة الدولة أنه، على ما لاحظ الزميل مشرق عباس في مقال له في «الحياة» تعليقاً على انفجار مدينة الصدر، أنه يتم خزنه في أماكن سكنية مكتظة ومساجد وحسينيات ووسط المدن لا خارجها»، وهنا تحديدا يجب التنبّه إلى «مدى خطورة ظاهرة التسلح وتعاظمها، إلى درجة أن مدن العراق بمثابة قنابل موقوتة بإمكانها أن تنفجر بطريقة حسينية مدينة الصدر لتهدم عشرات المنازل وتودي بالضحايا».

في ضوء ما سلف ينشأ في العراق وضع سياسي– أمني غير مسبوق من شأنه أن يقضي على آمال اعتقد العراقيون أنها قد تتحقق أخيرا بعد الهزيمة العسكرية لتنظيم «داعش» وتسويات محتملة بين بغداد وأربيل التي عمقتها تداعيات الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان. وهي آمال بنيت على أن هذه الانتخابات ستؤدي إلى فتح «صفحة جديدة» في تطور العراق وتبشر ببداية جدية لبناء دولة مؤسسات مدنية. لكن ما حدث أن الانتخابات ونتائجها المختلف على نزاهتها أدت إلى إنهاك العراق والعراقيين بمزيد من الأزمات.