التاريخ: أيار ٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الانتخابات: عندما يصبح دراكولا بابا نويل - جهاد الزين
دلّت التخاطبات خلال الحملات الانتخابية على أن مواقع النفوذ الرئيسية في النظام السياسي اللبناني لا تشعر بأي حرج خاص عندما تتحدث عن خطر الانهيار الاقتصادي للبنان. لا بل هي من فرط قدرتها على أخذ مسافة عنه ، تهدّد به كأحد أبرز أسلحتها التحاججية.  

هذا يضعنا أمام حالة سياسية سيئة جدا: وهي أن الانهيار الاقتصادي ليس سلاحا ضد الطبقة السياسية التي أوصلتنا إلى مشارفه فسادا وهدرا وعجزاً.

لذلك علينا أن نتخيّل الموقف فيما لو حصل هذا الانهيار: سيعني ذلك مزيداً من سيطرة هذه القوى على مجتمعاتها.

وهذه وضعية مفترَضة تنسف كل نظرية انهيار الحكم المسؤول عن الانهيار. خلال الحرب الأهلية وفي الثمانينات تحديدا عندما بدأ الانهيار المالي ازداد تحكّم الميليشيات ببيئاتها لأن المجتمع ضعف أي استُضْعِف بينما هي استحكمت وتحكّمت بفقره وخوفه من فقره. أتذكّر كانت تلك فترة لم تعد الميليشيات تخجل أنها تعامل الناس كـ"شحادين": توزيع معونات غذائية في كل المناطق وتحويل مراكز الميليشيات إلى مراكز "رعاية اجتماعية".

كانت تلك حقبة تحوّل فيها دراكولا إلى بابا نويل.

لذلك وكيساري في تلك الأيام تبين لي وأنا أراقب تحولات الثمانينات أنها عينة على فشل افتراض ماركسي أن الفقر يولّد الثورة.

الفقر بل الإفقار في الحالة اللبنانية، وفي حالات أخرى، ليس محرك التغيير. لذلك لو راقبنا العديد من التجارب منها الراهنة، أمكن لنا مثلاً أن نلاحظ أن ثورة ميدان التحرير في مصر ليست ثورة طبقة فقيرة معدمة وإنما ثورة نخبة شبابية من الطبقة الوسطى. شعار الحريات السياسية لا يرفعه الفقراء بل الشبعانون. حتى في تونس التي انبنى الوهج الدعائي لانطلاقة ثورتها الريادية عام 2010 على رواية إحراق البوعزيزي لنفسه احتجاجا على منعه من تحصيل لقمة العيش ولو عبر مخالفته القانون كما تراه سيدة شرطية صغيرة الموقع، لم تكن ثورة جياع بل ثورة طبقة وسطى تريد الحريات السياسية ضد نظام بوليسي. ها هي اليوم الثورة التونسية التي قدّمت ولا تزال نموذجاً رائعا للتطور الديموقراطي وخصوصا في مجال استيعاب بل تحجيم القوى الأصولية الدينية... هاهي تتخبّط بشكل خطِر أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية حتى بما يهدد معنى التغيير السياسي الذي أصبح في تونس هو الأسلم عربيا قياسا بانحرافات وتشوهات معارضات "الربيع العربي" الأخرى.

أنا شخصيا لم أهتم بالانتخابات اللبنانية إلا بشكل جزئي. الجزء "الجزئي" من اهتمامي لا يشمل التفاصيل التنافسية (حيث هناك تنافس) وإنما "كليات" التنافس. هل من قوى جديدة فعلا؟ هل من ضغط بنّاء على الطبقة السياسية باتجاه إنقاذنا من خطر الانهيار الاقتصادي بسبب سياسات مالية صنَعَتْها هي، وفساد مكشوف ارتكبته هي، وعدم كفاءة إدارية اقترفتها هي، خلال تحاججاتها الطائفية بين جمهور طائفي جدا.

الوقاحة لدى البعض، وهو بعض طائفي مناطقي متنافس مع بعضه في مناطق طائفية أخرى، تجعل أسلوب القوى الشابة غير المتورطة (والهامشية انتخابيا عموما رغم ديناميكيتها) أسلوبا عاجزا عن الإحراج الفعال لقوى مهيمنة. أحد رؤساء الميليشيات الرئيسية السابقة يتحدث بإصرار عن "بناء الدولة"، رئيس آخر لميليشيا حالية كبيرة يعد بخطة استراتيجية لمكافحة الفساد، رئيس فريق كبير يربط بين وجوده السياسي وبين الازدهار، على الأقل في "مناطقه"ووو.... هؤلاء وغيرهم الجواب "البايخ" من فرط صحته عنهم: أنتم في قلب السلطة التي صنعت هذا "الإفلاس".

أتمنى أن يكون مؤتمر سيدر قد وضَعَ لبنان تحت وصاية دولية مباشرة في المجال الاقتصادي، بل أحلم أن يكون هذا المؤتمر وضَعَنا تحت "انتداب فرنسي اقتصادي" سيكون ضمانة لعدم الانهيار وبالتالي المزيد من تحكّم هؤلاء المجرَّبين المحليين بحياتنا.

مرة أخرى قد تنتقل ذات يوم بعد الانتخابات من رتبة مواطن إلى رتبة شحّاذ، لكنْ دون ذكاء الشحّاذين "الأصيلين".

في هذه الحالة إذا لم تأتِ صندوقة الاقتراع بالتغيير، على الأقل بالمحاسبة، فإن صندوقة القمامة أجدى منها، لا بل "أنظف" سياسيا لأن ما كشفته هذه الصندوقة (القمامة) في السنتين الأخيرتين كان واحدة من أكبر عمليات الفضح والتحريض السياسيّين في تاريخ الجمهورية اللبنانية. لكن كل ذلك توقف عند الصندوقة الثانية؟؟!