التاريخ: نيسان ٢٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لا فائدة للمعارضة من الاستمرار في الحرب السورية - نيقولاوس فان دام
افتتحت "دار جنى تامر للدراسات والنشر" باكورة نشاطها بندوة في فندق البريستول في بيروت يوم الأربعاء 25-4-2018 بتقديم كتاب "تدمير وطن - الحرب الأهلية في سوريا" الذي أصدرت الدار ترجمته العربية، لكاتبه السفير الهولندي المستشرق الدكتور نيقولاوس فان دام. وهو صاحب كتاب شهير في السبعينات من القرن الماضي حول الصراع الطائفي في سوريا( كان سفيرا في سوريا من بين المهمات التي تولّاها). حضر السفير فان دام الحفل وألقى التقديم التالي لكتابه. يُذكر أن جنى تامر هي المديرة السابقة لـ"دار النهار للنشر" وقامت بتأسيس الدار الجديدة. "قضايا النهار" تتمنى للسيدة تامر التوفيق في مشروعها الجديد. 

بعد المطالبة اللجوجة بإصدار ترجمة عربيّة لكتابي "تدمير وطن: الحرب الأهليّة في سوريا" ، الذي كان قد نُشر قبل أقلّ من عام، فإنّه يسعدني الآن أنّه يُنشر للمرّة الأولى بنسخة مُحدَثة وموسّعة باللغة العربيّة. 

منذ بداية آذار/ مارس 2011 بالذات، كانت الثورة السوريّة موضوعاً مثيراً جدّا للجدل، بسبب وجهات النظر المتعارضة كلّياً والمتضاربة لدى الأطراف المتحاربة المعنيّة. وهدفي هو النظر في التطوّرات من مسافة بعيدة بعض الشيء، بدلاً من الانحياز إلى طرف من الأطراف.

أحد الأسئلة الرئيسة المطروحة في هذا الكتاب هو: هل كان يمكن، تفادي الحرب الدامية في سوريا أم لا، وهل كان يمكن توقّعها؟ والجواب هو أنّه ما كان يمكن تفاديها وكان يمكن توقّعها. إلّا أنّه ما كان يمكن توقّع تأثيرات ما يُسمّى الربيع العربي والتدخّل الخارجي في الحرب السوريّة التي بدأت في 2011.

كنّا قد رأينا قبل 2011 بكثير، كيف أنّ نظام البعث تعامل، في مناسبات عديدة، بوحشيّة مع أيّ تهديدات طالته، أكانت وهميّة أم حقيقيّة: سُجن معارضو النظام وعُذّبوا، وقُتلوا أو اغتيلوا أو "انتحروا بأكثر من رصاصة واحدة"، أو تمّ التعامل معهم بوسائل قمعيّة أخرى.

لم يكن ممكناً واقعيّاً توقّع أنّ ديكتاتوريّة غاشمة، لها هذه الصفات والسلوك التي للنظام البعثي السوري، ستتخلّى عن السلطة طوعاً نتيجة مظاهرات سلميّة، كتلك التي بدأت مع الثورة السوريّة سنة 2011. كما أنّه لم يكن في الحقيقة من الممكن توقّع أن يتخلّى النظام طوعاً عن سلطته نتيجة الحرب الضارية الدائرة بالوكالة على الأراضي السوريّة، والتي كان قد شجّعها ودعمها عسكريّاً وماليّاً وكلاء إقليميّون مثل تركيا والسعوديّة وقطر، وبلدان غربيّة مثل الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا. توقّعتُ منذ أكثر من عقدين، في كتابي السابق الصراع على السلطة في سوريا - ولم يكن التوقّع على هذا القدر من الصعوبة - أنّه كان (ولا يزال) من المحتّم على أيّ تحرّك لإحداث تغيير في النظام أن يؤدّي إلى سفك دماء هائل. وهذا ما قد رأيناه خلالَ السنوات التي أعقبت بدء الثورة الأهليّة، ولا نزال نشهده اليوم. والذين لم يتوقّعوا مثل هذا السفك الهائل للدم، فإنّهم إمّا لم يعرفوا ما يكفي عن التاريخ السوري، وإمّا عانوا من جرعة مفرطة من التمنّي، أو الاثنين معاً.

كيف أمكن هذا العدد الكبير جدّاً من السياسيّين الأجانب أن يتوقّعوا بسذاجة أن يتنحّى الرئيس بشّار الأسد طوعاً عن منصبه كرئيس لسوريا، بعد كلّ الفظاعات التي قيل إنّ النظام السوري ارتكبها ضدّ المتظاهرين المسالمين المزعومين، ولاحقاً ضدّ جماعات المعارضة المسلّحة؟ أرادوا للأسد أن يوقّع طوعاً على قرار إعدامه، لأنّ الرئيس الشرعي لسوريا فَقَدَ، في نظرهم، شرعيّته. لكنّ ذلك افتقر كلّيّاً إلى الواقعيّة، بمعنى أنّ ما أرادوا له أن يحصل - حتّى ولو وُجد له تبريرٌ على أساس نظرتهم إلى العدالة والحق - ما كان بالتأكيد ليحصل في الواقع.

تمثّل البديل في هزم النظام السوري عسكريّاً، الأمر الذي لن يعود بعده من حاجة إلى المحادثات. لكنّ الديموقراطيّات الغربيّة المعنيّة رفضت هي الأخرى التدخّل العسكري المباشر. غير أنّه، ومن باب البديل، اختارت حكومات غربيّة وعربيّة مختلفة التدخّل العسكري غير المباشر، من خلال تسليح مختلف الجماعات السوريّة المعارضة وتمويلها ودعمها سياسيّاً. وتبيّن أنّ ذلك كان كافياً لجعل النظام يترنّح، لكنّه غير كافٍ لإطاحته.

زعمت الحكومات الغربيّة بمعظمها أنّها أرادت حلاًّ سياسياًّ، وذلك صحيح من حيث المبدأ؛ لكنّها لم تردْ إلاّ حلاًّ سياسيّاً يؤدّي إلى تغيير النظام، وتبيّن أن ذلك مستحيل من دون الوسائل العسكريّة الكافية. وكانت للتدخّل العسكري غير المباشر نتائج كارثيّة شبيهة بما كان يمكن أن تكون عليه نتائج التدخّل العسكري المباشر: وأبرزها نحو نصف مليون قتيل، ملايين اللاجئين، دولة في حال خراب، ووطن مدمّر إلى حدٍّ كبير.

عند الحديث عن المفهوم المثير للجدل لتحمّل المسؤوليّة، أو المشاركة في تحمّل مسؤوليّة الوضع الكارثي في سوريا، يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً الواقع القاسي المتعلّق بمن ربح، أو بمن حقّق نصراً معيّناً، أو مُني بهزيمة في الحرب.

وقد أمكن، ربّما، النظر إلى الأمر بطريقة مختلفة لو كانت قوى المعارضة العسكريّة والمدنيّة تمكّنت من إحلال السلام، وخلق "سوريا جديدة" بالخصائص التي وصفتها، سنة 2016 في الرياض، الهيئة العليا للتفاوض المنبثقة عن المعارضة السورية، كالتالي: "الدولة متعددة الأحزاب المبنية على الحرية والممارسة الديموقرطية والشمول والتمثيل والمواطنة، وسيادة القانون وحقوق الانسان والمساءلة، واستحداث آليات فاعلة لاحترام حقوق الانسان السوري وحفظ كرامته وضمان حقه في المشاركة الكاملة في العملية السياسية ...، وإطلاق حوار وطني شامل لا يستثني احداً." إلّا أنّ هذا المثال الأعلى لم يتحقّق على الإطلاق. ومن المشكوك فيه أن يكون جميع الموقّعين على إعلان الرياض هذا (2016)، على استعداد لأن يطبّقوا فعلاً المبادئ المشتركة التي أعلنوها، في حال استولوا على السلطة من النظام. في مثل هذه الحالة، يمكن اعتبار أنّه كان في وسع حرب المعارضة ضدّ النظام أن تجد ما يبرّرها، وكانت "ستستحقّ العناء"، لأنّها كانت ستؤدّي إلى تحسّن جوهري في وضع البلاد. لكن، لم يكن في الواقع تحقيق ذلك ممكنًا، لأنّ المعارضة المسلّحة - أو ربّما عليّ أن أقول: مجموعات المعارضة المسلّحة الكثيرة معاً - لم تتمكّن من تحقيق انتصار عسكري على النظام، وخلق "سوريا الجديدة" التي قالوا إنّهم يهدفون إلى إقامتها في إعلان الرياض المذكور آنفاً. وفي الإمكان، بنتيجة ذلك، الاعتراض بالقول: إنّ مجموعاتِ المعارضة وداعميهم الأجانب، يتحملون على الأقل مسؤوليّة كبيرة، أو يتشاركون في تحمّل المسؤولية (مع النظام) في ما خصّ النتائج الكارثيّة للحرب السوريّة على جميع السوريّين؛ بالرغم من أنّه، من الناحية الإحصائيّة، تسبّبت أفعال النظام بعدد أكبر بكثير من القتلى والدمار.

أضف إلى ذلك، أنّه حتّى في حالة تمكُّن المعارضة المسلّحة من إسقاط النظام، كان يصعب توقّع أن يتحسّن الوضع، نظراً إلى غياب الوحدة بين المجموعات المعارِضة الكثيرة. ولم تتحقّق، حتّى بعد سبعة أعوام من الحرب، أيّة وحدة فعليّة بين قوى المعارضة المسلّحة. وحتّى بعد سبعة أعوام من الحرب الدامية، وسقوط نحو خمسمئة ألف قتيل، فإنّ الكثير من السياسيّين الغربيّين والعرب لا يزال يعميهم، ولو قليلًا، الفكر الغارق في الأماني ، فيواصلون بنتيجة ذلك مقاربة النزاع في سوريا بما يُفترض أنّه أسمى المعايير الأخلاقيّة.

لم يكونوا على استعداد للقبول بالحقيقة الأساسيّة، وهي أنّه من خلال الإرادة المحدودة والوسائل المحدودة لا يمكن إلا أن تكون الأهداف المحقَّقة محدودة. وهكذا ساهم مختلف السياسيّين الغربيّين والعرب، بشكل غير مباشر، في استمرار الحرب، بكلّ ما نتج عنها من قتلى ولاجئين ودمار.

كان من الأفضل، برأيي، للدول الخارجية لو أنّها تراجعت وبقيت خارج الحرب السورية، بدلاً من محاولة فرض حلٍّ يفتقر إلى ما يكفي من الوسائل العسكريّة لتحقيقه، مع ما أدى ذلك إلى ما نعرفه اليوم من عواقب.

ألم يحنِ الوقت للاعتراف بأنّ الحرب على النظام السوري هي في مرحلة الخسارة؟ وإذا كانت النتيجة باتت بهذا الوضوح، فما الفائدة من الاستمرار فيها وسفك المزيد من الدماء؟ أم أنّ الدول التي كان لها دور في الحرب بالوكالة، تريد للحرب أن تستمرَّ بجميع قتلاها ولاجئيها ودمارها على حساب الشعب السوري؟ هل تريد هذه الدول للمعارضة أن تحصل على بعض أوراق المساومة في مفاوضات مستقبليّة، في وقت لم يعد فيه، عمليّاً، الكثير للتفاوض عليه، آخذين المعادلة العسكريّة بعين الاعتبار؟ أم أنّها تريد البقاء في سوريا في إطار تنافسها الإقليمي على السلطة؟

أما في ما يتعلّق بالمفاوضات، فقد كانت المعارضة السوريّة تتواصل على مدى سنين مع النظام السوري، عبر المبعوثين المتعاقبين للأمم المتّحدة إلى سوريا، لكنّهم أرفقوا ذلك بتصريحات استحالت معها أيّة مفاوضات جدّية، لأنهم طالبوا، كنوع من الشرط المسبق، بضرورة إقصاء الرئيس الأسد وأتباع النظام، الذين تلطّخت أيديهم بالدماء، عن أداء أيِّ دور في مستقبل سوريا، وبإحالتهم إلى المحكمة الدولية. قد تبدو هذه المطالب مفهومة تماماً، لكنّها غير واقعيّة، لأنّها كانت كفيلة باستبعاد أيّة تسوية أو مفاوضات جدّيّة مع النظام.

ما كان يمكن، ربّما، تحقيقه من خلال الحوار مع النظام في المراحل الأولى للثورة السوريّة، بات أكثر صعوبة لاحقاً بعد كلّ ما حصل من قتل ودمار. وكلّما زاد أمد الحرب، كلّما صار صعباً التفاوض للوصول إلى تسوية. فالحقد المتبادل بين أطراف النزاع هائل. قد يعترض المرء قائلا: إنّ النظام لم يكن أبداً مهتمّاً بأي شكل من الحوار الذي يمكنه أن يؤدّي إلى تغييرات سياسيّة فائقة أو إصلاح؛ لكنّ محاولة القيام بذلك - في رأيي - لم تدم طويلاً. كان يجب أن تستمر المحاولة الجدّية التي بُذلت في البداية. بل على المرء أحياناً أن يبذل مزيداً من الجهد الجاد إذا لم يكن مقتنعاً تماماً بإمكان تحقيق النجاح.

ما الذي تلقّته الدول التي دعمت المعارضة في مقابل مساعداتها غير الكافية وتدخلها العسكري؟ إليكم أربعة من أهم القضايا: 1) اللاجئون، 2) تزايد الإرهاب، 3) اشتداد النزعة القوميّة الكرديّة والرغبة في الحكم الذاتي، 4) تفاقم حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.

انّ الحرب (ردّاً على فظاعات النظام) استُهلّت، في الواقع، من دون وسائل كافية وتخطيط يسمح أيضاً بإمكان كسب هذه الحرب بالفعل. وكان على الدول الخارجيّة المتدخّلة، قبل الانخراط في الحرب، أن تدرس الوضع العسكري بما يكفي للتأكّد من أنّ حلفاءها السوريّين يمتلكون حظّاً واقعيّاًّ بكسبها. لكنّها، على ما يبدو، لم تفعل. على المرء، لهزم اسدٍ وقتله، أن يتأكّد مسبقاً من أنّه الأقوى والفريق الأفضل تسليحاً، لتفادي الهزيمة وقتل النفس.

أدّت التدخّلات العسكريّة الخارجيّة - المباشرة وغير المباشرة - إلى تعزيز كبير في موقف روسيا. وقد تمثّل هدف روسيا الرئيس من التدخّل في إبقاء حليفها الإقليمي الوحيد، النظام السوري، في السلطة. ومن دون التدخّلات الخارجيّة الأخرى في سوريا، بهدف إحداث تغيير في النظام، لانتفى لدى روسيا أيّ سبب للتدخل بالطريقة التي تدخّلت فيها منذ 2015.

ما الذي يكسبه النظام من الحلّ السياسي بدلاً من الحلّ العسكري؟ فهو لا يستطيع البقاء في السلطة إلى الأبد (حتّى ولو أنّ شعاراته تؤكّد أنّه سيفعل)، ومن مصلحته بالتالي المساعدة في إنشاء سوريا جديدة شاملة لجميع السوريّين، بحيث يتمّ تفادي ثورة جديدة أو تسوية الحسابات من خلال الانتقام. تبدو المصالحة مستحيلة في الظروف الراهنة، بسبب الحقد المتبادل السائد، وتبادل اللوم على الكارثة التي حلّت بسوريا. بيد أنّه على مختلف أطراف النزاع بذل الجهود الدؤوبة، أقلّه للوصول إلى طريقة للتعايش. وإذا لم تُبذل الجهود الدؤوبة، فقد يتطلّب الأمر أجيالاً لحلّ النزاع الحالي، وربما تكون ثورة أخرى قيد الإعداد.

باحث وسفير هولندي