التاريخ: نيسان ٤, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لبنان 2018: ما الجدوى من الانتخابات العامة؟ - جوزيف مايلا
بعد مخاض طويل ومداولات مستفيضة حول الصيغة المفترضة للقانون الأمثل، أقرّ البرلمان اللبناني في 16 حزيران/يونيو 2017، قانون انتخاب جديد لتجري على أساسه الانتخابات التشريعية في ربيع عام 2018. جاء هذا القانون مخيباً لأنه لم يأت بالإصلاحات المنشودة وأبقى الغلبة للمنطق الطائفي من خلال تثبيت التوزيع الطائفي للمقاعد والأخذ بعين الاعتبار التوزيع الطائفي للسكان في البلاد. وستجري الانتخابات اللبنانية في ظل تحولات خطيرة، أهمها استمرار الحرب السورية، تصاعد نفوذ إيران وتدهور الوضع على حدود لبنان الجنوبية. وكما جرت العادة، ولكن بجلاء أكبر هذه المرة، ستكون الانتخابات اللبنانية "انتخابات إقليمية" إذا صحّ التعبير. 

تداعيات الوضع الإقليمي 

من بين جميع البلدان المجاورة لسوريا، كان لبنان الأكثر عرضة للتداعيات الناجمة عن الصراع الدائر فيها وأهمها ثلاث. تمثلت العاقبة الأولى في أزمة اللاجئين السوريين الذين تدفقوا على لبنان وشكلوا قنبلة موقوتة ترتبط بمسألة التوازنات الديموغرافية التي تقوم عليها الكيانية اللبنانية.

أما العاقبة الثانية فهي من دون منازع تورُّطُ حزبِ الله اللبناني فيها إلى جانب النظام السوري، ما جعله يتحول إلى جيش إقليمي قائم بحد ذاته، ويخرج نهائياً عن مبدأ النأي بالنفس عن النزاعات الإقليمية، الذي توافقت عليه مختلف الأطراف اللبنانية في إعلان بعبدا عام 2012. إن حزب الله الذي سيكون له مرشحوه في انتخابات 2018، يسطّر سياسته في سياق المشهد الإقليمي الأوسع، ويربط ممارساته وأهدافه بإطار موازين القوى الإقليمية والمركز المحوري الذي تحتله إيران ضمنها. إن مهمة حزب الله الاستراتيجية ما هي إلا امتداداً لتطلعات إيران في المنطقة ورؤيتها لها ولمستقبلها لا سيما بعد المكاسب التي حققتها إثر انتصارها في الحرب السورية. لذلك، لن تكون الانتخابات المقبلة كغيرها بالنسبة إلى الحزب، إذ أن رؤيته السياسية - العسكرية لمستقبل لبنان، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمق السوري - العراقي - الإيراني. فأجندته هي أجندة إقليمية وتصوره للمنطقة يعكس منطق الصراع الدائر بين المحاور الإقليمية، ويهدف بشكل رئيسي إلى تثبيت النظام السياسي اللبناني كقاعدة صلبة مرتبطة بإيران.

أما العاقبة الثالثة فهي تصاعد الخلاف السني - الشيعي، أو بالأصح، السعودي - الإيراني، لا سيما بعد انتصار إيران بدعم من روسيا في الحرب السورية، وإحكام خصوم السعودية في لبنان، أي قوى 8 آذار، سيطرتهم على زمام الأمور في البلاد مع قبول حليفها الأول سعد الحريري ترأس حكومة يشارك فيها حزب الله. وازداد هذا الوضع تعقيداً مع التفاهم الذي عقد على عجلة بين التيار الوطني الحر وحزب الله عام 2006، والذي صب في مصلحة العماد ميشال عون لجهة سعيه إلى الجلوس على كرسي رئاسة الجمهورية، ومنح حزب الله الغطاء المسيحي الماروني الذي كان يحتاجه بشدة. وجاء استدعاء الرئيس الحريري إلى الرياض وإجباره على تقديم استقالته في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، ليعبر عن مدى استياء الرياض من الأوضاع السائدة في لبنان، وتالياً، عن حجم استفحال النزاع بين السعودية وإيران.

قانون الانتخاب الجديد 

في سياق هذه المشهدية، ولد قانون الانتخاب الجديد رقم 44/2017 كثمرة نهج التسوية الذي لطالما ميّز الحياة السياسية في لبنان، وجاء ليصادق على تفاهمات مسبقة ويرسم مناطق نفوذ انتخابية وفقاً لمصالح الأحزاب.

بين خيار اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس النظام النسبي، والعودة إلى خيار النظام الأكثري ضمن "دوائر صغرى" الذي يجسده قانون الستين، اتجه القانون الجديد نحو صيغة وسطية نتيجة لتسوية سياسية اعتمدت تقسيم البلاد إلى 15 دائرة انتخابية كبرى تضم 26 قضاءً، تساعد كما في السابق على توزيع المقاعد على الطوائف وتجري فيها الانتخابات على أساس القائمة النسبية تحت مظلة تصويت أكثري عبر ما يسمى بـ "الصوت التفضيلي". إن الصوت التفضيلي الذي تفتقت عنه العبقرية اللبنانية الباحثة دوماً عن التسويات الطائفية، يمنح الناخب حق اختيار مرشحه "المفضل" من ضمن اللائحة التي يصوت لها، كما يسمح بترتيب المرشحين من طائفة واحدة في اللوائح المختلفة والذين يسعون لشغل مقعد الطائفة نفسه على صعيد القضاء. اللوائح الفائزة هي التي تحظى بأكبر حاصل انتخابي في الدائرة الناتج عن قسمة عدد المقاعد على عدد الناخبين. أما الأصوات التفضيلية فهي تحدد رتب المرشحين وفقاً للمقاعد المخصصة لطوائفهم في كل قضاء وبالتالي الفائزين بها. إن الصوت التفضيلي هو بدعة لبنانية ولا وجود له في أي نظام من الأنظمة الانتخابية المعتمدة في العالم.

باستثناء اعتماد لبنان للمرة الأولى قانون انتخاب يقوم على النسبية، لم يأت القانون الجديد بأي تغييرات جوهرية. بل لا نبالغ إذ نقول إنه جاء هجيناً وبمثابة انتخاب أكثري بسبب اعتماد الصوت التفضيلي الذي يلغي إلغاءً شبه كامل المفاعيل المرجوة من اعتماد النظام النسبي، لا سيما لجهة تمكن وجوه جديدة من دخول البرلمان. إلى هذا، كرّس القانون الجديد المحاصصة الطائفية وشدّ العصب الطائفي، ولعل أخطر تداعياته هي اللامساواة بين اللبنانيين. إن الثورة الانتخابية وسلة الإصلاحات التي كانت متوقعة لم تحصل، ما يدفعنا إلى طرح سؤال محوري: ماذا نترقب من هذه الانتخابات التي تجرى في الإطار الإقليمي الذي أسلفنا الحديث عنه ووفق قانون الانتخاب هذا؟ بمعنى آخر ما جدوى الانتخابات العامة؟

المشهد السياسي في لبنان 

تستحيل الإجابة عن هذا السؤال من دون الأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى الموجود على الساحة السياسية اللبنانية والذي فرض نفسه تدريجياً وسيبقى مهيمناً عشية الانتخابات العتيدة.

طرأت خلال السنوات الماضية تحوّلات جذرية على ميزان القوى بين مختلف الأطراف السياسية اللبنانية وتغيرت المعادلة لا سيما لجهة التحالفات بين هذه القوى، خصوصاً تلك التي نشأت في أعقاب خروج الجيشين الإسرائيلي والسوري من لبنان. إن الانقسام السياسي الذي رسم معالمه نشوء قوى 14 آذار المعارضة لسوريا وقوى 8 آذار الموالية لسوريا لم يعد موجوداً. فالثنائية السياسية التي ميزت الحياة السياسية في لبنان (الكتلة الدستورية/الكتلة الوطنية، الحلف الثلاثي/النهج الشهابي، الجبهة اللبنانية/الحركة الوطنية) اختفت من المشهد السياسي اللبناني ما بعد اتفاق الطائف. منذ الاحتلال السوري للبنان، غلب منطق الاصطفافات الإقليمية على منطق الانتماءات أكانت عقائدية أم محلية أم عائلية، وباتت الحياة السياسية اللبنانية ترتكز اليوم على محاور إقليمية، وأصبح التمييز بين 8 آذار و14 آذار ضبابياً إذ انزلق ليعكس مسار النزاع الاقليمي. ما يطغى اليوم هو هذه الاصطفافات الإقليمية، وهي من ستحدد التحالفات التي ستشهدها الانتخابات المقبلة. ومع ذلك، كيفما جاءت التحالفات السياسية الانتخابية، ستبقى النخبة السياسية الممسكة بمقاليد السلطة التي ستنتجها الانتخابات تدور حول خمسة أحزاب هي التي تتألف منها حكومة الرئيس سعد الحريري الحالية، والتي تهدف إلى ضمان استمرارية التوازن الذي تقوم عليه السلطة اللبنانية اليوم الذي على الرغم من هشاشته، أظهر مرونة في مواجهة الأزمات.

ستحشد حركة أمل الصوت الشيعي الشعبي وتعبئ أتباعها حول رئيسها ذي الشخصية الكارزماتية الذي عرف كيف يوظف الزبائنية السياسية ليجذب إليه موالين.

أما التيار الوطني الحر، فيعتمد في حشد قاعدته من المسيحيين على خطاب سياسي محوره استعادة كرامة المسيحيين وشدّ أزرهم عبر تحالفاته الجديدة وإحياء دورهم تحت مظلته، وهي مبادئ تكرست في ما أطلق عليه مسمى "الرئيس القوي".

بالنسبة إلى حزب الله، فهو يتمتع بقاعدة صلبة من المناصرين يلتفون حول عقيدة ترتكز على الدين والشهادة في آن واحد، وبمقدوره تالياً أن يعتمد على انضباطهم التام وولائهم المطلق إلى شخص أمينه العام. إن حزب الله يتفوق من دون منازع على سائر الأحزاب ولديه استراتيجية وأجندة تتخطى الحدود اللبنانية.

من جانبه، استطاع حزب القوات اللبنانية حجز مكان لنفسه على الخارطة السياسية اللبنانية عبر انضمامه إلى حركة 14 آذار. إن براعة كوادره واعتماد خطاب سياسي يقوم على مبدأ الدفاع عن الوجود المسيحي، يجعلان منه حزباً يتمتع بقوة كبيرة للحشد الأيديولوجي، إضافة إلى أن مناصريه يلتفّون حول زعيم يدينون له بالولاء المطلق.

أما تيار المستقبل، فثقله كبير من ثقل زعيمه السني سعد الحريري. على الرغم من تعدد توجهاتها، حافظت السنية السياسية في لبنان على قدرة استقطاب لا يمكن الاستهانة بها. إذا كان سعد الحريري هو القطب البارز على خريطتها، فهذا لا ينفي وجود مجموعة من الزعماء السنة لهم دورهم كفؤاد السنيورة (في صيدا) ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي أو عمر كرامي (في الشمال) وتمام سلام وفؤاد مخزومي (في بيروت). في الوقت عينه، اضطربت علاقات القوى السنية المحلية مع المحيط السني الإقليمي، فاختلت مع سوريا إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتوترت مع السعودية بعد حادثة احتجاز الرئيس سعد الحريري الأخيرة، إضافة إلى أن حزب الله احتكر منذ وقت طويل الحشد حول القضية الفلسطينية التي كانت سابقاً ملعباً للقوى السنية في لبنان.

في بلد يقوم على التعددية الطائفية، يستحيل أن يتم إقصاء أي من المكونات إقصاءً دائماً عن العملية السياسية. ومع الاعتراف باستثنائية قوة بعض الأطراف على التأثير في المشهد السياسي، لا يمكننا في هذا المجال تجاهل سلطة وليد جنبلاط داخل الطائفة الدرزية من جهة، ولا دوره على الصعيد الوطني. وبالمنطق نفسه، ثمة مجموعة من الزعامات المختلفة المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية والأرمنية في كل من بيروت وزحلة والكورة وجزين والمتن، تتمتع أيضاً بثقل في ميزان القوى السياسية. وفي هذا السياق، تفرّد حزب الكتائب في مواقفه عندما رفض المشاركة في اللعبة السياسية وصب اهتمامه على مناصرة قضايا المجتمع المدني والدفاع عنها، مطلقاً بذلك مقاربة جديدة للحياة السياسية في لبنان تستحق التبصّر بها بالتزامن مع تصاعد نفوذ مجتمع مدني ضاق ذرعاً بالإهمال وسوء الإدارة.

ومع ذلك، أفرز هذا المشهد عن دائرة محكمة للسلطة تدور حول الأحزاب الوطنية الشعبوية كحركة أمل والتيار الوطني الحر أو تلك الأحزاب العقائدية كحزب الله والقوات اللبنانية، يضاف إليها قطب درزي وآخر سني هو تيار المستقبل، يحافظ تحالفها غير المألوف بطريقة أو بأخرى على ثبات السفينة اللبنانية. هذه الأحزاب، هي الجهات الفاعلة الرئيسية في العمل السياسي والمستفيدة الأكبر منه. وما يشدّ من تعاضدها هو ميثاق من التحالفات يقوم في آن واحد على شبكة من اقتسام النفوذ وتوزيع الأدوار والمكاسب الاقتصادية، بما ينسينا نظرية لبنان السلمي التوافقي، الإبنة المدلّلة للعلم السياسي في لبنان. لسنا اليوم أمام ميثاق طائفي مع برنامج انتخابي وأهداف سياسية محددة، بل أمام تعددية هرمية استئصالية (تستأصل وتتقاسم السلطة والثروات) هي المعنية الأولى بهذه الانتخابات، إذ أنها تهدف في خلالها إلى تعزيز الوضع الراهن وتثبيت موازين القوى الموجودة. من المؤكد أن الرابح الرئيسي من هذه الانتخابات هو حزب الله الذي وبغض النظر عن النتائج وعدد النواب الذي سيتمكن من إيصالهم إلى القبة البرلمانية، سيواصل سعيه لتحقيق أهدافه الأمنية والعسكرية في لبنان وفي المنطقة مع نجاحه في المحافظة على التوازنات الداخلية اللبنانية والاستعداد للمواجهة الإقليمية الكبيرة المرتقبة.

إن الانتخابات العامة ضرورية لكل بلد بهدف انتظام الحياة الديموقراطية وإجراؤها واجب كما قبول نتائجها، حتى في الديموقراطية التي تتعرض أحياناً لكسوف كما هي حال لبنان، حيث بات إجراء الانتخابات متقطعاً ومتقلباً. قد لا تؤدي الانتخابات في أحيان إلى التغيير المنشود وقد تضفي في أحيان أخرى وللأسف الشرعية لموازين القوى القائمة وتفرض الاعتراف بمكاسب تحققت بحكم الأمر الواقع. ويمكن لها أيضاً أن تعكس صدى اهتراء نظام سياسي ومعاناة الشعوب وضرورة السير نحو الديموقراطية.

مثقف وأستاذ جامعي هاجر من لبنان إلى فرنسا في النصف الثاني من ثمانينات القرن المنصرم بعد عمل سياسي وتولّى لاحقا لفترة محددة كخبيرٍ فرنسيٍّ ملفَّ الأديان في الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية وكان أحد المرشحين لمنصب الأمين العام لمنظمة الأونيسكو. 

¶ هذه المقالة أعدّها الكاتب كتلخيص للورقة السياسية رقم 16 التي كتبها والصادرة عن بيت المستقبل بالتعاون مع مؤسسة كونراد آديناور. يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقع بيت المستقبل الإلكتروني:
 www.maisondufutur.org