التاريخ: آذار ٣٠, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
في غرفة الاقتراع للرئيس القائد: الـ «نعم» جعلتنا في الجامعة والسجون «غنماً» - هيفاء بيطار
يبدو أن الإنسان يملك حاجة عميقة للبوح بالحقيقة. وعلى حد تعبير الأشقاء اللبنانيين «يبق البحصة». ها أنا أجدني بعد أكثر من ثلاثين سنة أريد أن أبق البحصة لغاية وحيدة وهي أنني مؤمنة أن قول الحق يحررنا وأن المسؤولية الأخلاقية للكاتب الحقيقي هي قول الحقيقة مهما كلف ثمنها. ويبدو أن هنالك هوى كامن في نفس الإنسان وهو الحاجة الماسة للبوح بالحقيقة، ومهما طال الزمن ومرت السنوات فإن هوى قول الحقيقة يصبح ضاغطاً لدرجة يستحيل على الإنسان أن يحفظ السر الثقيل.

كنت في السنة الثالثة في كلية الطب البشري في جامعة تشرين في اللاذقية لا أتجاوز العشرين من عمري حين طلب منا عميد الكلية من طريق فريق من طلاب اتحاد الطلبة (وهم في واقع الأمر مخبرين ومهمتهم كتابة تقارير أمنية بزملائهم)، أن نتجمع في ساحة كبيرة تضم غرفتين متقابلتين الغرفة الأولى مُعلق على بابها يافطة مكتوب عليها غرفة نعم. والغرفة الثانية مُعلق على بابها يافطة مكتوب عليها غرفة لا. وكانت المناسبة إعادة انتخاب رئيس سوريا القائد المُفدى إلى الأبد حافظ الأسد. ويومها تساءلت بسذاجة وفرائصي تتقصف من الذعر: ما الغاية من (غرفة لا) طالما أنها مقفلة الباب ولا أحد يقترب منها، ولا أحد يجرؤ أن ينظر إليها. ولكن فضولاً عنيداً جعلني أطيل النظر إلى (غرفة لا) الموصدة وأتأمل الحرف الممنوع في سورية، وهو حرف (لا) فسورية كلها نعم. وربما النظام يعتبر أن إضافة حرف واحد لكلمة نعم وهو (ة) تصبح النعم في سورية نعمة. لكن عقلي المشاكس كان يقرأ كلمة نعم على الشكل التالي (غنم) كنت مولعة بشقلبة أحرف الكلمات. فالحب أقلب حروفه ليصبح بح الخ. ووجدت الطلاب الغنم يتقدمون زرافات زرافات إلى غرفة نعم وينتخبون إلى الأبد القائد المُفدى حافظ الأسد. والمضحك المبكي في المشهد أن الانتخاب يتم وراء ستارة مُغلقة وبسرية تامة!! كما لو أن هنالك مرشحين عديدين أو كما لو أن احتمال كتابة كلمة (لا) وارد وكيف يكون وارداً وغرفة (لا) مغلقة بالمفتاح. وطبعاً انقدت وراء القطيع وكتبت كلمة نعم وأنا أشعر بأنني نملة ولا قيمة لي. لأن الإنسان مسلوب الحرية لا يشعر بأية قيمة له. ومرت سنوات وبقيت تلك الحادثة تنخر في روحي الشابة التي نجحت في شيء واحد فقط وهو الحفاظ على عفوية استماتت مدربات الفتوة والأجهزة الأمنية والتربية الدينية والأسرية في خنقها وتشويهها لكن عبثاً. وها أنا وقد بلغت منتصف العمر واطمأنيت أن كل أسرتي تعيش خارج سورية وبأنني أستطيع أن أعيش بكل يسر وبساطة في باريس، لكنني اخترت أن أعود وحيدة إلى وطني الجريح المُنتهك والمُهان والمُغتصب سورية، وأن أجلس لساعات في مقاهي الرصيف أتأمل الوجوه الكالحة اليائسة للسوريين وأن أحصي عشرات المتسولين الأطفال الذين يمرون بالمقاهي كل يوم. لدرجة شغلني علم الإحصاء فذات يوم بلغ عدد المتسولين الأطفال خلال ساعة من جلوسي في المقهى 60 طفلاً أكبرهم في السابعة من عمره. الآن أتساءل أي ذعر فظيع تعايشنا معه طوال فترة شبابنا ودراستنا الجامعية! أي لوحة سريالية مُروعة ومرعبة أن يجتمع طلاب جامعيين بعمر الورود في ساحة لينقادوا كالغنم إلى غرفة نعم للرئيس بينما غرفة لا، مقفلة بالمفتاح، ولا أجد معنى لقفلها! لأنها حتى لو كانت مفتوحة فلن يجرؤ أحد أن يدخلها، وإن دخلها سيكون مصيره السجن المؤبد وستهبط عليه تهم مثل العمالة والخيانة إلخ. أي ذعر تعايشنا معه في أثناء دراستي الجامعية للطب البشري حين اختفى فجأة أكثر من عشرة طلاب في سجون أقبية النظام بحجة انتمائهم لرابطة العمل الشيوعي أو لحزب الإخوان المسلمين، ودفع أهاليهم رشاوي بالملايين لضباط في الدولة فقط ليعرفوا إن كان أولادهم أحياء أم أموات. وأخبرني بعض هؤلاء الأصدقاء المسجونين أنهم (وهم في السجن) كان السجان يُحضر لهم صندوقاً ليقترعوا للرئيس بتجديد البيعة، وبعضهم كان يقترع لقناعة منه أنهم سيطلقون سراحه لكنه كان يظل محبوساً فالغاية الوحيدة من الإقتراع هي المزيد من الإذلال. وكيف أنسى أن أحد الأسئلة في فحص الشهادة الإعدادية في سورية كلها وفي مادة التربية الوطنية كان: ما أقوال الرئيس حافظ الأسد في التدخين! ويومها صعقت ولم أكن أعرف أن لديه أقوالاً مقدسة في التدخين، بل كنت أقرأ آلاف اللافتات من قوله: إنني أرى في الرياضة حياة ! فأنظر حولي فلا أرى سوى سورية كجثة. وكيف أتجاهل نوع الثقافة والمحاضرات في سورية مثل (المرأة في فكر حافظ الأسد) أو (كيف نقول لا لأميركا) أو الغزو والتطبيع الثقافي. ومن يُفهمني حل اللغز العجيب فحين ألقى العالم عارف دليلة محاضرته القيمة العظيمة عن تطوير الزراعة والصناعة في المركز الثقافي في اللاذقية وكان لي شرف حضورها. محاضرة مذهلة تعتمد على علم الإحصاء وتقدم خططاً بارعة في تطوير الزراعة وبخاصة زراعة القطن. وضجت القاعة بالتصفيق الحار الصادق والحقيقي.

وبعد أيام فوجئنا باعتقاله! ولأسباب لا نعرفها واستمر اعتقاله سنوات، ترى ما التهمة التي أعتقل بسببها ومنذ أيام كان رئيس «حزب البعث» في اللاذقية والمحافظ وقائد الشرطة يصفقون له بعد انتهائه من محاضرته المهمة. سورية بلد الألغاز وربما من واجبي أن أطمئن الشعب السوري أنه لن يُصاب بالخرف لأن عقله دائم العمل والتفكير لحل ألغاز حياته! أي سوري يعرف سياسة قطع الكهرباء بتلك الطريقة، ولماذا أحياناً تُقطع لأيام وأحياناً لا تنقطع لأيام، والوزير المصون (وزير الكهرباء) وقف متغطرساً وخاطب الشعب السوري من خلال الإخبارية السورية بأن الكهرباء لن تعود للانقطاع، لأن الجيش السوري البطل حرر حقول النفط من سيطرة «داعش» المجرمة في دير الزور لكنه وفيما هو يتكلم انقطعت الكهرباء وعادت للإنقطاع.

أتساءل بألم كبير على أية قيم يُبنى جيل سورية الشاب (أطفالها وشبابها) ولا يزال شبح غرفة لا يحكم عقولهم. ما زال في عقل كل طفل سوري وطفلة سورية وفي عقل كل شاب سوري وشابة سورية (غرفة لا) موصدة وفي داخلها أفاعي وعقارب سامة وسجن تدمر الأوحش بين السجون والذي سُجن به العشرات من أصدقائي ومنهم ياسين الحاج صالح الذي تزاملنا في كلية الطب، على رغم أنه كان في جامعة حلب لكن كان بيننا أصدقاء مشتركون. وكتابه الرائع (بالخلاص يا شباب) ستة عشر عاماً في السجون السورية. أيه ثقافة تُزرع في عقول شبان وشابات سورية وهم يهجون خارج وطن الموت أو يموتون غرقاً في البحر أو تحصدهم الصواريخ الروسية ذات الجيل الجديد والتي لا حدود لمداها. إحدى الشابات التقيتها منذ أيام وعمرها 26 سنة بكت وقالت لي: نحن أكثر جيل تعرض للظلم لم يعد هنالك شباب للزواج والعنوسة مفروضة علينا.

كلمة (لا) لا وجود لها في القاموس السوري. وغرفة لا موصدة في عقول معظم السوريين وإلا من يجرؤ وينظر إليها مجرد نظرة فقد ارتكب جرماً لأنها أصلاً مُقفلة. الكل يجب أن يقول نعم. وحين أسمع هدير المظاهرات المؤيدة والحناجر تجعر بنعم أتخيل الراعي الجميل في بساتين كسب حين كان يهش قطيع الماعز وتصدح حناجرها بماع ماع. ياه كم تشبه نعم نعم. النغمة ذاتها. بينما كلب الحراسة اليقظ يقوم بكتابة التقارير. وأجمل تقرير كتبه أحد الزملاء عني : بورجوازية متعالية متعاطفة مع أحزاب يسارية. الحمد لله لا توجد إحصائيات دقيقة عن نسبة الجنون في سورية. ولا يوجد طاقم من الأطباء النفسانيين الذين ينورون عقولنا عن الآثار الكارثية لإغلاق باب (غرفة لا).