التاريخ: شباط ١٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
رد: الأسئلة السبعة "القاتلة" والسؤال الغائب - بدر الدين عرودكي
يبدو أنه كان على من أطلقوا "الثورة في سوريا" قبل سبع سنوات أن يتمهلوا قليلًا، قبل المسارعة إلى إطلاق ثورة "ماتت سريعًا" -كما حكم السيد جهاد الزين في صحيفة (النهار) اللبنانية مؤخرًا - ويدرسوا أفضل نماذج الثورات في تاريخ العالم، كي يتداركوا الأخطاء التي ارتكبت خلالها قبل وقوعها، ويجعلوا من ثورتهم بيضاء ناصعة من غير سوء! 

لكنهم لم يفعلوا. لا سيما أنهم كانوا - في غالبيتهم العظمى - شبابًا "أغرارًا"، كانت نخبة من "المثقفين" و"المناضلين" في المجتمع نفسه الذي يعيشون فيه وإليه ينتمون، تظن أنهم سادرون في مسرّاتهم اليومية الصغيرة، غير عابئين بكل ما عداها. لكنهم مضوا في تظاهراتهم، يحمل بعضهم الورد للجنود الذين وقفوا يحاولون صدّهم عما هم فيه من جهل "فداحة" و"خطر" ما كانوا يقترفونه، ويغنّي بعضهم الآخر كلمات لم يكن يجرؤ أباؤهم على قول بعضها، خلال أربعين سنة. لم يفكروا في ضرورة أن يكون من بينهم قائد كشارل ديغول، ولا بوزير مثقف كأندريه مالرو! لكنهم فعلوا ما بوسعهم في مجتمعٍ تمَّ تفريغه كليًا من السياسة، وحرمانه من "الحرية"، ودفعه إلى الانهماك يوميًا بحثًا عن قوته وحاجاته ؛ فأنشأوا التنسيقيات في الأحياء، ووحدوها في المدن، ثم على صعيد البلد، يحاولون بها وضع أسس مجتمع مدني ديموقراطي. لكنهم فوجئوا، قبل أن تطلق رصاصة واحدة في أي مكان في سوريا، بجثث بعضهم تعاد مشوهة من التعذيب إلى الأهل كي يدفنوها ليلًا وبصمت، أو باختفاء فجائي لبعضهم الآخر.. وذلك قبل أن يبدأ نظام الطغمة الأسدية بمواجهتهم برصاص البنادق، ثم بقصف المدافع فالدبابات، وانتهاء بالبراميل، وقبل أن يشهدوا جمعَ البعض الآخر منهم في ساحات القرى والمدن، وهم يداسون بالأقدام، ثم مجازر الأطفال والنساء والرجال تُرتكب يوميًا، وتتهم بتنفيذها "الجماعات المسلحة السلفية"، التي لم يكن أحد يعرف آنئذ بوجودها سوى دوائر الأمن والإعلام الأسدية، والتي بلغت الصفاقة ببعض المحررين من أنصار "حزب الله" في لبنان إلى الحديث بمناسبتها عن "قندهار" السورية.

ليس لهذا كله أن يحرم أحدًا من طرح أكثر الأسئلة إحراجًا، بل قتلًا. سوى أن السؤال، كما نعلم، ينطوي في الصيغة التي يُحرَّرُ بها على بعض الإجابة. ومن هنا ضرورة النظر قبل كل شيء في صيغة الأسئلة ذاتها. ولا سيما تلك التي صاغها وعنون بها السيد جهاد الزين مقاله في (النهار): "سبعة أسئلة قاتلة تجاهلَتْها المعارضة السورية"، والتي تستدعي، لا الإجابة عنها بدلًا عن الذين تجاهلوها، وهم مُمَثلون، كما يقول الكاتب، في شخص اعتباري واحد سمّاه "المعارضة السورية"، بل الوقوف عند عناصر صوغها بالذات: عند التسميات والمفاهيم والافتراضات والوقائع التي وردت في هذه الأسئلة السبعة ومعها شروحاتها التي ألّفت مجموع المقال.

يُصدر الكاتب في السطر الأول من مقاله حُكمًا قطعيًا، بأن الثورة السورية "ماتت سريعًا"، ولم تنتج "بيئة قيادية ريادية، ولم تنتج أيضًا المثقف الفرد الشجاع". أما حيثيات الحكم - إن أردنا تسميتها كذلك تجاوزًا- فهي أنها لم تنتج "الموقع القيادي" ولا "الفكرة القيادية". ليس من المهم كما يبدو هنا في نظر الكاتب وضع هذه الحيثيات في ضوء الظروف التي عاشتها الثورة "قبل موتها" السريع، ذلك أن ذاكرة الكاتب لم تسجل، أو أنه لا يعلم شيئًا عن طبيعة السياق الذي جرت فيه الأحداث، طوال الأشهر الستة الأولى من الثورة، أو، لنقل، طوال السنة الأولى منها، مما سبقت الإشارة إليه. والأمر نفسه ينسحب على ما يسميه "صمت المثقفين والناشطين المعارضين"، إذ إن فقدان الذاكرة هنا شديد الوضوح، لاسيما أن ما يسميه "صمت المثقفين" هو ذاته الذي فجّرته لأول مرة تعددية الأصوات السورية الجديدة، وتلك التي كانت، بوجه خاص، للمثقفين الذين لم يكتشفوا ضرورة الثورة عند وقوعها، والذين سبق لهم أن دفعوا الثمن غاليًا من سنوات شبابهم في السجون الأسدية. ينسى الكاتب، أو بالأحرى يتجاهل، أن كثرة من هؤلاء قضوا قتلًا، أو أرغموا على التواري فالهجرة، ولم يكونوا صامتين، لا أثناء تواريهم، ولا بعد هجرتهم.

تقول هذه المقدمة في مقال الكاتب الأرضية التي وقف عليها كي يُطلق اليوم أحكامه أو ربما ما يظنه رصاصة الرحمة على ما يسميه "المعارضة السورية". ولكن، ما الذي يعنيه الكاتب بـ "المعارضة السورية"؟ وقبل ذلك، هل يستقيم مفهوم "المعارضة"، في ظل نظام استبدادي لا يعرف مكانًا لمعارضيه إلا السجون حيث لا صوت لهم، أو المنافي حيث يسهل التنصل منهم أو سحب الاعتراف بهم؟ ألم يلاحظ الكاتب أن وراء استخدام هذا المفهوم من قبل الدول الصديقة أو الهيئات الأممية خدعة كبرى، ترمي إلى إعادة تأهيل الأسد الذي لم يسحب الاعتراف بنظامه من قبل أحد في العالم سوى الجامعة العربية؟ ثم هل تستقيم مماهاة وجوه تفترض علمانيتها بالمعارضة كلها؟ وهل "قبلت" هذه الوجوه فعلًا "سيطرة" أو "شرعية" القوى الأصولية بصفتها الشخصية أم بصفتها التمثيلية؟ أما أن أدونيس "الذي هوجم وشيطن" - كما يقول الكاتب - رفع صوته ليعلن "أن هذه ليست الثورة"، فمن الضروري التذكير، على ما يبدو، بأن جملة أدونيس هذه قيلت ضد خروج المتظاهرين من المساجد، أي حين لم تكن آنئذ أي "قوة أصولية" موجودة على الأرض؛ ويعرف الجميع أن المساجد يوم الجمعة، يمكن أن تكون نقاط تجمع في ظل نظام يفرض الحصول على موافقة أمنية مسبقة لأي ضرب من ضروب التجمع، وأن هذا "الصوت الكبير"، كما يقول الكاتب، آخر من يحق له أن يتحدث عن الثورة حين يصف بشار الأسد بـ "الرئيس المنتخب"! غياب التمييز في السؤال بين "المعارضة" و "شخصيات معارضة"، فضلًا عن التذرع بأدونيس، يجعل السؤال صيغة اتهام عرجاء لا صيغة إحراج!

غياب السياق مرة أخرى في السؤال الثاني عن "هرب المدنيين في المعارضة نحو إنكار معضلة (…) تأييد أجزاء كبيرة من الأقليات، وخصوصًا المسيحيين، للنظام" يجعل من السؤال لا تجريمًا فحسب بل إدانة لمجهول في الواقع، ما دام الكاتب يتجاهل من الذي تحدث عن "الإمارات الإسلامية"، قبل ظهور أي جماعة إسلاموية على الأرض السورية؟ ومن أفرج عن الإسلاميين في السجون الأسدية بعد استخدامهم في العراق؟ ولماذا؟

والأمر نفسه - تغييب السياق- يتكرر في السؤال الثالث، حول الإسهام في "تبرير العسكرة وكتم فكرة المقاومة المدنية"! لكن الأسوأ من السياق تغييب طبيعة النظام الأسدي التي إذا ما استدعيت أفرغت السؤال من معناه وجعلت المقارنات التي يعقدها مع تجارب العالم المعاصر تبدو شديدة السذاجة.

وفي السؤالين الرابع والخامس اللذين يبدآن بـ "من المسؤول عن؟"، محاولة لتوجيه الاتهام إلى "المعارضة السورية"، بما أنها هي من تجاهلت أسئلة السيد جهاد الزين القاتلة. مرة أخرى، من هي هذه "المعارضة" التي يقصدها الكاتب؟ يعلم، كما يعلم كل قارئ، أن هذه المعارضات معارضات، وأن بعضها نال حظوة النظام، وبعضها الآخر رضا روسيا، والبعض الثالث رضا القاهرة، والرابع رضا الولايات المتحدة وجزء من دول الخليج، والخامس رضا الولايات المتحدة والجزء الآخر من دول الخليج. فأي معارضة يعنيها الكاتب هنا حين يطرح سؤاليه المذكورين؟

أما السؤال السادس حول تجاهل مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في "تحدياته السورية (الجولان المحتل)"، والذي كان موجهًا للمثقفين، فمن الواضح هنا أن الكاتب لا يتابع جيدًا ما قام ويقوم به المثقفون السوريون، خصوصًا في هذا المجال، سواء على صعيد الندوات أو الدراسات أو النشاطات أو البيانات. هنا يفقد السؤال فعلًا طابعه "القتّال"، كي ينزل على من وُجِّه إليهم بردًا وسلامًا!

لكن فكرة "ربح وخسارة الحرب"، بوصفها "المسألة العميقة" التي يطرحها خاتم الأسئلة القاتلة، فهي تحيل إلى سؤال آخر: على من يطرح هذا السؤال القتال؟ أهو مطروح على المعارضة أيًا كانت (ما دمنا لم نتعرفها بدقة في مقالة الكاتب)؟ وهل هي، لو كانت هي مقصد السؤال، من يستطيع الإجابة عن سؤال يريد إلغاء "خسارة الحرب" لصالح "إنقاذ سوريا، أو ما تبقى من سوريا"؟

هنا، في هذه الخاتمة وفي طريقة صوغها بالذات، لا يغيب السياق، ولا المعلومات، ولا يحضر التناسي والتجاهل معًا فحسب، بل تحضر أيضًا وخصوصًا المساواة بين القاتل والمقتول، أي بين النظام والمعارضة، ما دام الكاتب يرى أن كل طرف منهما "يقتل شعبه".

سوى أن السؤال القاتل حقًا، لم يَرِدْ بين هذه الأسئلة السبعة، ولن يُوَجَّهَ كما أراد الكاتب إلى من سماه "المعارضة السورية"، بل إلى من يستعجلون الأمور، أيًا كانت مواقفهم المعلنة أو الصامتة، وفي ظني أن الكاتب أحدهم: هل صدقتم فعلًا أن عملية إعادة تأهيل الأسد يمكن أن تنجح؟

كاتب سوري مقيم في الخارج 
(عن موقع "جيرون")