التاريخ: شباط ١٣, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لبناني في اليمن: يوسف بك حسن الشاهدُ الناقدُ على الاعتلال والاستقلال - لطفي نعمان
عادت "الدولة العلية" أو الإمبراطورية العثمانية، منتصف القرن التاسع عشر ثانيةً إلى حكم اليمن الشمالي المرتبك "باطنه" بتبوؤ أكثر من إمامٍ حُكمَ مناطق شمالية متفرقة في آنٍ واحد، مع تغاضٍ واضح عن وجود حاكم أجنبي، باسم الإسلام، جرياً على ما جرى عليه نشوء 17 دولة ودويلة تتشاطر النفوذ على مدى 1098 سنة مع الأئمة الذين انفردوا بحكم اليمن مرتين مدة 243 سنة. انقطعت فترة انفراد الأئمة الأولى باستدعاء أحد الأئمة للأتراك أو العثمانيين وفقاً لتسميتهم التاريخية حينئذ، وظلوا يحكمون معاً مشتركين حتى انفجر صراع مذهبي طائفي (شيعي - سني)، نتيجة معاداة بعض مندوبي العثمانيين للأئمة من آل البيت، بحسب بيان الإمام يحيى حميدالدين الظافر بحكم اليمن "المُعتل" إثر جلاء العثمانيين من شماليه غير الخاضع لنفوذ الاستعمار البريطاني المخيم في جنوبي اليمن "المحتل". 

ابتعث العثمانيون إلى اليمن، أكثر من "قائمقام" و"متصرف" و"مأمور" ما كان "يهمهم غير العبث وارتكاب الأخطاء في الإدارة"، فلم ترقَ كفاءتهم إلى مراعاة وضع بلد عريق التاريخ غريق في بحور الصراع، يستحق الأخذ بيده للترقي، طالما جهل أبناؤه سبل الإضافة إلى مجدهم التاريخي نتيجة اصطراع مستمر على السلطة، وفوضى وتخلف ناجمين عن ذلك. هنا ارتأى أحد وآخر المتصرفين وهو اللبناني التنوخي يوسف بك حسن أن "واجبه" العناية بـ"أهل اليمن، العرب الأقحاح" والعمل هنالك و"إملاء أحد المراكز المهمة والقيام بعمل يؤدي إلى تنوير أفكارهم وإيقاظ أذهانهم إلى مجد آبائهم وعظمة أسلافهم" بحسب توصيفه. وهو اعتزاز أصيل ودائم من كل حفيد لبناني وشامي بالجد اليماني.

أَقدَم هذا المتصرف على تصريف إحدى عشرة سنة من كتاب عمره (1886-1969م)، في اليمن، بدءًا من وصوله عدن باليمن المحتل بريطانياً، يوم 10 كانون ثاني 1910م حتى غادرها نهار 6 تشرين أول 1921م امتطى خلالها "العاديات" أي الخيول. وأشهر اللبناني "السيف اليماني" يبتر مظاهر إخفاق سابقيه من العثمانيين في إثبات وجود الدولة وهيبتها حيثما تعين قائماً أو متصرفاً لعدة ألوية: إب وتعز وحجة والحديدة. وإن عُدّ ما أنجزه يوسف بك، بإسم الدولة وسرَّ الجميع إنجازه: "إيماضة الخمود" الواردة بمقدمة ابن خلدون.. لأن العواصف العاتيات شرعت تهب بديار "الرجل المريض"، وأتاحت بتعبير حسان أبي عكر: "للإمبرياليات أن تتنافس وتتناتش ما تستطيع من إرثه".

صعود يوسف بك ونزوله جبال وسواحل اليمن، أنعش مواهبه الأدبية ونتاجه الشعري، وقارب وقارن بين التراثين الفنيين اللبناني واليماني، وأبرز بِسِماتِه الذاتية قدراته الإدارية، محققاً دوافعه السياسية. وبتلك المزايا والخصائص سبر أغوار المجتمع اليمني، وجاب آفاق نُخِبِه، واستكشف فضائل ورذائل الخَلق، جلافة ولطافة الطباع. وأضفى لمسات إنسانية مع آثارٍ معمارية حيثما حل وارتحل مُعيَنَاً، مبتغياً رضا الرب بحسن أداء واجبه الوظيفي تجاه أمته على أكمل وجه، تحسيناً لوجه الدولة المتهالكة وتقويةً لبنيانها بعدما نخرها الضعف، حد إهمال معالجة أطرافها المتآكلة نتيجة "غرغرينا" أصابت جسد حكومة تخلت عن مأموريها و"تهاملت عن حقهم من دون سؤال عنهم وتفقد حالهم" بنسيان معاشات موظفيها، وعدم الاكتراث برعاياها اليمنيين ومدى تضررهم من الصراع على "سواحلهم المباحة" في "أرضهم المتاحة" للقوى الدولية، فما شُغِلت بمسألة إنجاز استقلال تلك البلاد، وتركت الأمر على عواهنه، وإن خاطبت المتصرف يوسف بك "أن اليمن لم يزل بيد الحكومة، والوضعية السياسية لم تسمح لإرسال فلوس (...)"!

طاف الفارس اللبناني والجدود اليمنيون بالحفدة على صهوات طائفةٍ من "عاديات اليمن"، وعنوان يومياته المطبوعة بالدار التقدمية، بعدما اعتنى بإخراجها مؤخراً "سفير البيان" سفير لبنان السابق باليمن حسان أبي عكر - المُعتني اللبناني الجديد بقضايا اليمن وشؤونه وشجونه، ماضيه وحاضره، ودارس أدوار وأطوار اللبنانيين فيه، إذ سبق أن أصدر كتاباً تعريفياً بالمتصرف في "مئوية قدومه إلى اليمن"، ودراسات عن لبنانيين آخرين - صحبة نجل المتصرف الأستاذ الكريم "عاصم" الذي أهدى "حفدة وبنوة معاصري والده" يوسف بك حسن، هذه اليوميات المبهرات. فتفضلا، النجل والسفير، على اليمن واليمنيين مع لبنان واللبنانيين والمكتبة العربية، بصنيعٍ حسن أسدوه إلى سجل التاريخ والشاهد الأمين لأيام وأحوال اليمن أثناء حقبة عاشها المتصرف الراحل وشاهد أهوال مجاعة ومآسي إنسانية أليمة، نتيجة تسخير اليمن "من أجل الآخرين" عثمانيين وبريطانيين، خلال الحرب العالمية الأولى، التي يسرت نتائجها إعادة حكم اليمن الشمالي للأئمة الزيود، وإن شق على بعض المناطق الشافعية السنية التي صَرّفَّها يوسف بك - وخصوصاً تهامة - التظلل تحت حكم الإمام يحيى، لولا أن الظروف كانت مؤاتية له. علاوةً على ضعف الخيارات الأخرى وانصراف بريطانيا عن استعمار الشمال، حيث لم يُغرِها أو يُثِر أطماعها، فاكتفت به "مشكلةً حدودية".

نبعت المشكلة الحدودية مع بريطانيا جنوبي اليمن من تطلعات إمام "الشمال" في صنعاء الذي رأى فيه "بريطانيون" قدرةً، وجدارة لتصريف شؤون الشمال، لكأنهم قائلون: ذاك يمنُه وهذا زمنُه، ليستعن بما (وبمن) يَعِنّ له ترتيب شأنه وتعزيز مكانته. وإن هزت بعض قبائل تهامة مكانته أمامهم قليلاً، طبقاً ليوميات يوسف بك، باحتجازها لوفد انكليزي... كما كان استقلاله "مشكلةً وجودية" بالنسبة للعثمانيين أو المتصرفين على الأقل، وتحديداً يوسف بك رغم شهادة معاصريه عن "وصوله اليمن مبعوثاً سرياً لأمير البيان شكيب أرسلان، وشيخ العروبة أحمد زكي باشا للعمل على محاولة الاستقلال الذاتي لليمن عن الدولة العثمانية مع الولاء المطلق للخلافة في اسطنبول (...)".

وعمن ظفر عام 1918م بالاستقلال بعد الاعتلال: "ابن حميدالدين"، لم تحفظ اليوميات سوى محمدة واحدة تستحق الذكر والشكر، بينما زخرت أغلبها بالمآخذ عليه وخرقه للعهود. أما أعوانه وقبائله، فأصلاهم "البك" بنار "انتقاداته" وعَبرَهُم بحوافر "عادياته" في غير موضع، مع الانكليز والعثمانيين وكذلك السيد الإدريسي الذي يفضّله المتصرف على الإمام يحيى، وإن عاب عليهما معاً "بُعد أطماعهم عما يُرضي الله، رغم قُرب أنسابهم من رسول الله" (...)؛ واستخدامهم جيوش "يدعون أنها باسم الشريعة" بينما "الشريعة الأبعد عما يدعون". مع موضوعية تقديره لوضعهما ووزن قوتهما، وشعبيتهما.

وأخيراً يصف يوسف بك ما لقيه اليمنيون من المتصارعين "عقاباً منطقياً عادلاً" على إساءتهم للدولة العثمانية واستشراسهم ضدها وتقصيرهم بحقها، وإن باتوا يتحسرون عليها ويرجون رجوعها (...) مع أنها أعمار وأقدار ليس يغيرها ولا يعيدها التمني.

صحافي يمني