التاريخ: شباط ١١, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
توسُّل التسوية بـ «الكيماوي» و«النابالم» - عمر قدور
ما تتعرض له غوطة دمشق الشرقية ومحافظة إدلب من قصف روسي شديد يذكّر بوحشية القصف على مناطق سيطرة المعارضة في حلب الشرقية قبل سنة ونحو شهرين، إلا أنه ربما يفوقه لجهة الاستخدام النشط للنابالم وغاز الكلورين. وفي استخدام الأخير تكرار لرسالة سابقة موجّهة إلى الإدارة الأميركية قبل غيرها، بما أن الإدارة السابقة أبرمت صفقة التخلص من ترسانة الأسد الكيماوية، وبما أن إدارة ترامب قصفت مطار الشعيرات رداً على استخدام غاز السارين في مجزرة خان شيخون.

المجازر المرتكبة والصمت الدولي تجاهها هما على الأرجح وجه واحد لمفاوضات غير منعقدة، أو لمفاوضات متعثّرة. هذا لا يمنع أن تكون المجازر أو سياسة الأرض المحروقة وسيلة لمكاسب صغيرة، أو وسيلة لمكاسب قوى أصغر من القوتين الكبريين. إيران مثلاً تسعى إلى السيطرة الميدانية على الغوطة الشرقية لإحكام سيطرتها على دمشق كلها، الأمر الذي تحتاجه بشدة لا لتقوية موقعها التفاوضي وإنما لعرقلة أي مشروع للتخلص من نفوذها على مركز القرار. في إدلب وريفها أيضاً، تحاول الميليشيات الشيعية كسب أكبر مساحة ممكنة، والتعدّي على التفاهمات التي سبق إبرامها مع أنقرة لتقاسم مناطق النفوذ فيما يُعرف بصفقة إدلب مقابل عفرين.

أنقرة التي تهدد باستهداف منبج، الواقعة تحت سيطرة الميليشيات الكردية والمظلة الأميركية، تريد حماية حربها المتعثرة على عفرين حتى لو توقفت عند حرب استنزاف طويلة الأمد. مراهنة أنقرة هنا أنها لا تسحب من رصيد أحد باستثناء رصيد حزب العمال الكردستاني، وقد تبقى المراهنة صائبة طالما بقيت مقنِعة لبقية القوى التضحيةُ بمقاتلي الفصائل التي تستخدمها أنقرة مقابل ترويض الميليشيات الكردية.

تصوير موسكو مجازرها على أنها استهداف لـ «جبهة النصرة»، أو استهداف للمعارضة التي لا تقبل بخطة الكرملين للإبقاء على الأسد، هو تعمية عن التخبط الروسي بعد أن بلغ التدخل مداه بموجب التفاهمات السابقة بين موسكو ومختلف القوى. للتذكير، لم يلقَ التدخل العسكري الروسي معارضة أميركية، بل كان مرحّباً به أميركياً وإقليمياً إذا لعب دور الشرطي الجيد في ضبط الوضع السوري، وإذا أتى على حساب النفوذ الإيراني.

لكن، فضلاً عن المناخ المشجع الذي أحاط بتدخلها، عقدت موسكو العديد من الصفقات الصغيرة كي يمر تدخلها بأقل الخسائر. فهي نظرياً منحت الرياض الثقل السياسي في أية تسوية تُعقد من خلال الأمم المتحدة، ومنحت تركيا منطقة نفوذ في الباب وجرابلس لقطع الطريق على الميليشيات الكردية، مثلما أبقت للطيران الإسرائيلي حرية الإغارة على أهداف لقوات الأسد وحزب الله وفيلق القدس.

وكما هو معلوم لم تلتزم موسكو بالعديد من التفاهمات، فأبقت على عرقلة مفاوضات جنيف، وعملت على قضم هيئة التفاوض المعارضة، وتصرفت كأنها انتهت من الاستفراد بالملف السوري. إلى وقت قريب كان يُنظر إلى تلك الممارسات الروسية بصفتها نجاحاً ديبلوماسياً واستراتيجياً، بلا تمعن في المدى الذي يمكن لتجارة المفرّق هذه أن تصله، ففي المحصلة ليس هناك واقعياً ما يمكن المقايضة به بلا نهاية والرقعة الجغرافية التي تتحكم بها أقل من الطموحات الاستراتيجية الكبرى، إذا افترضنا تحكم موسكو منفردة بها.

الخطوات الروسية، شأن التحليلات المتفرعة عنها، كلها كانت مبنية على الانسحاب الأميركي من سورية بعد القضاء على داعش. إذ من دون الانسحاب الأميركي تبقى نسبة جيدة من الأراضي خارج السيطرة الروسية، وهي فوق ذلك تتضمن مصادر النفط والغاز والمياه. ومهما يكن قرار البقاء الأميركي مفاجئاً فإنه أيضاً كشف عن قصور نظر روسي، والمسألة هنا ليست في مقدار النفوذ الذي تطمح إليه موسكو، أو حتى في كيفية استرداد كلفة تدخلها العسكري، هي أولاً في تكذيب الغطاء الإعلامي للتدخل الروسي بصفته حماية لـ «سيادة الدولة السورية»، وأيضاً في تكذيب وهم القوة الروسي خارج النطاق الجغرافي المعتاد.

لقد التزمت إدارتا أوباما وترامب بعدم عرقلة التدخل الروسي على نحو ما حصل في أفغانستان، بل ساعدت موسكو عسكرياً بتخفيض المعونات الأميركية لفصائل معارضة وصولاً إلى إيقافها كلياً. ذلك لا يعني تلقائياً تقديم مساعدات أخرى تقوّي من مكانة روسيا الدولية، ولا يعني افتقاد واشنطن وسائل عرقلة أقل كلفة، ولعل من مفارقات الوضع الراهن إعلان الغضب الروسي فقط لأن واشنطن لا تساعد موسكو كما يجب.

الهجوم الروسي على مناطق خفض التصعيد، التي هي في الأصل مشروع روسي، يشبه هياج دب يدمّر ما حوله مع إدراكه أن جرة العسل هي في مكان آخر. ولا جدال في مقدرة موسكو على تسوية الأرض مع سكانها في غوطة دمشق وإدلب، أو في مقدرتها على عرقلة أي قرار أممي إذا وصلت القضية إلى مجلس الأمن. أيضاً لا جدال في مقدرة موسكو على تمهيد الأرض لميليشياتها الحليفة كي تسيطر عليها، وسيكون في وسعها حينها التفاخر بنصرها على ما تسميهم إرهابيين، مع نسبة قليلة من المُدرجين على قائمة الإرهاب الدولية. ثم ماذا؟

هذا هو السؤال الذي تتحاشى موسكو الإجابة عنه، فهي إذا سيطرت على كافة المناطق غير الخاضعة للنفوذ الأميركي، سواء تركت مناطق النفوذ التركي الحالية أو لم تتركها، لن يبقى من معنى لحربها ولن تكون قادرة على إعلان الانتصار أو الاعتراف بالهزيمة.

على الصعيد الخارجي، لن يبقى لدى موسكو وسيلة ضغط من أجل انتزاع تنازلات جديدة من المعارضة، إذ يُفترض انتفاء الحاجة للتفاوض معها، ولا معنى للضغط على المجتمع الدولي بعد وصول التدخل إلى حدوده القصوى الممكنة. حتى على صعيد العلاقة مع الحلفاء، لن تكون موسكو قادرة على الضغط على طهران، بعد تحقيق ميليشيات الأخيرة النصر على الأرض وتشبثها بها، وستكون في أدنى أوضاعها تأثيراً على بشار نفسه وقد ضمِن منطقة مستقرة وآمنة من التهديدات، وهذا أقصى طموح عبّر عنه قبل التدخل العسكري الروسي.

بالكيماوي وبالنابالم وبدماء السوريين يتوسل بوتين تسوية تنقذه، ولا يأتي بجديد بهذا، ربما الجديد المتكرر عدم إدراكه أنه لو كانت للدم السوري قيمة دولية لما تُرك له من قبل.