التاريخ: كانون الأول ٢٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
قرار ترامب في شأن القدس... رُبّ ضارةٍ نافعة - بشير عبد الفتاح
على رغم خطورته ومجافاته المواثيق الدولية، لم يخل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص القدس، من ارتدادات ربما تطوي بين ثناياها بعض الفرص أمام الجانب الفلسطيني، إذا ما فطن إليها وأحسن استثمارها.

فبينما عبّر مجلس الأمن الدولي خلال جلسة طارئة، عن قلقه البالغ إزاء أخطار تصاعد العنف إثر قرار ترامب، أكد المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف خلال الجلسة نفسها أن التفاوض بين الطرفين يبقى وحده الوسيلة المثلى لتقرير مصير المدينة المقدسة، بينما سلّط المندوب السويدي أولوف سكوغ الضوء على القرار الأممي الرقم 2334 الذي اعتمد في 23 كانون الأول (ديسمبر) 2016، وأكد خلاله مجلس الأمن الدولي عدم اعترافه بأي تغيير في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 بما يشمل القدس، إلا إذا توصل الطرفان إلى تسوية في هذا الشأن عبر مفاوضات. وبالتوازي، جدّدت روسيا دعمها لحل الدولتين وأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. فيما أكد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، بالتزامن مع زيارة نتانياهو، التي كانت الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي لمقر الاتحاد منذ 22 عاماً، رفضهم قرار ترامب، مشددين على التزام حل الدولتين، ورفض اعتبار الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، جزءاً من حدودها. ومن جانبها، حاولت إدارة ترامب التخفيف من وطأة قرارها الصادم وتقديم بعض التطمينات للفلسطينيين والعالم، حيث أشارت إلى أن القرار لم يتعرض لتعيين حدود المدينة أو يقر أية تغييرات مصطنعة على أرضها، الأمر الذي يمكن أن يفتح المجال أمام الاعتراف بالقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية المرتقبة. بدوره، وبعدما لفت إلى أن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس سيستغرق ما بين عامين إلى أربعة أعوام، أكد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، أن الوضع النهائي للمدينة المقدسة يحدده التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فيما أكدت نيكي هايلي مندوبة واشنطن لدى مجلس الأمن الدولي، أن بلادها تلتزم مواصلة رعايتها عملية السلام. وتكمن أهمية هذا الزخم الداعم لحل الدولتين، في أنه يوفر سنداً سياسياً وقانونياً لموقف المجتمع الدولي، الذي لا يعترف بما ترتب على احتلال إسرائيل للقدس عام 1967، ثم ضمها إليها عام 1980، وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لها، كما يضمن حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة، ويحمي حقهم المهضوم في القدس الشريف عبر تأييد اتخاذهم شطرها الشرقي عاصمة لتلك الدولة. كذلك، يفوت التوافق الدولي حول القدس الفرصة على مساعي إسرائيل لطمس هذا الحق الفلسطيني، إن من خلال مواصلة أنشطة الاستيطان ومباشرة عمليات التهويد الممنهجة للمدينة، والتي عكفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التغول فيها، توخياً لفرض أمر واقع مغاير في المدينة المقدسة، توطئة لابتلاعها بأكملها وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل، أو عبر اختزال حق الفلسطينيين التاريخي والقانوني في القدس ببناية أو حي صغير بداخلها يتخذه الفلسطينيون عاصمة رمزية لدولتهم أو مقراً لحكومتها، أو ترشيح قرية أو بلدة فلسطينية قريبة من القدس يتخذها الفلسطينيون عاصمة بديلة للمدينة المقدسة وإطلاق اسم القدس عليها، وهي الطروحات التي دأب مسؤولون إسرائيليون وغربيون على الترويج لها منذ سنوات.

فبمجرد إطلاق ترامب قذيفته المدوية، مضى نتانياهو يطالب قادة العالم بأن يباركوها، واشترط على الفلسطينيين الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل قبل الدخول في أية مفاوضات جديدة معهم. ولم يكتف نتانياهو بذلك، وإنما أعلنت حكومته نيتها المصادقة على بناء 14 ألف وحدة استيطانية جديدة في المدينة المحتلة، حيث أقر وزير البناء والإسكان يوآف جالانت، خطة، تحظى بموافقة غالبية أعضاء المجلس الوزاري المصغر، تشمل بناء ألف وحدة استيطانية في مستوطنة «بسغات زئيف»، وثلاثة آلاف في مستوطنة «كتمون»، وخمسة آلاف وحدة في سلسلة جبال «لوفن» داخل حدود القدس، إضافة إلى خمسة آلاف وحدة في مستوطنة «عطاروت».

ومع تفهم ما أتت به ردود الفعل العربية والإسلامية الرسمية من بيانات تفوح بعبارات الشجب وأساليب الإدانة والرفض والاستنكار لقرار ترامب، فضلاً عن مطلق التقدير لصور الاحتجاج وأشكال التعبير عن الغضب الشعبي، بالوسائل المحسوبة والآليات المدروسة، يبقى حرياً بمختلف الدول العربية والإسلامية، شعوباً وحكومات، ضرورة التحلي بشيء من الكياسة والبراغماتية، بحيث لا يدخرون وسعاً في استثمار تلك الحالة الفريدة والنادرة من الإجماع الدولي الفارق وغير المسبوق في شأن أخطر وأعقد وأهم ملفات ما يعرف بـ «قضايا الوضع النهائي»، عبر تأكيد ضرورة حل الدولتين وإطلاق تحرك عربي- إسلامي جاد ونشط ومتواصل لحض الدول، التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين على الاعتراف بها، فضلاً عن حض المجتمع الدولي على ممارسة الضغوط على واشنطن وتل أبيب للقبول باستئناف المفاوضات وإحياء عملية السلام تحت رعاية أممية هذه المرة، واستناداً إلى المرجعيات المتوافق عليها دولياً كمقررات الشرعية الدولية والمواثيق والقرارات الأممية ذات الصلة، بحيث يتم التوجه إلى مجلس الأمن الدولي ومطالبته بالاضطلاع بدوره في إقرار الأمن والسلم الدوليين، والقيام بمسؤولياته في هذا الصدد، وفقاً للميثاق الأممي، لإقامة سلام عادل ودائم وشامل في الشرق الأوسط. وقبل كل شيء، يجدر بالفصائل الفلسطينية العمل على نبذ الخلافات والانقسامات وتوحيد المواقف، وألا تدخر وسعاً في الترفع عن الانتماءات الجهوية والمصالح الحزبية من أجل إنجاح اتفاق المصالحة الذي أبرم في القاهرة.

ولعل في زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس المرتقبة للمنطقة، فرصة لاختبار قدرة الفلسطينيين والعرب والمسلمين على التعاطي مع قرار ترامب في شأن القدس وتداعياته؛ بحكمة قانونية وحصافة سياسية، بما يتيح تعظيم المغانم وتقليص الخسائر قدر المستطاع. فخلال زيارته التي ستكون الأولى من نوعها منذ تقلده مهام منصبه، ومن المقرر أن تشمل مصر وإسرائيل والأراضي الفلسطينية، سيبحث بنس في إمكان استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الأمر الذي سبق أن أكده في خطابه أمام المؤتمر السنوي للوبي الصهيوني في واشنطن «إيباك»، في آذار (مارس) الماضي، حينما لفت إلى عزم ترامب إحلال اتفاق سلام وصفه بـ «حقيقي ومستقر» بين الجانبين.

وربما لا يكون من الحصافة السياسية، الإلحاح في المطالبة بألا تبقى الولايات المتحدة وسيطاً أو راعياً لأية مفاوضات سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مستقبلاً، وإن كانت لهذا الطرح دواعيه الإنسانية ووجاهته الأخلاقية. فعلى رغم انحياز واشنطن المستفز إلى الجانب الإسرائيلي، والذي تجلى أخيراً في قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا يمكن اعتبار سياسات ترامب الخرقاء بمثابة نهج راسخ أو توجه استراتيجي إزاء القضية الفلسطينية. فضلاً عن أن الدور الأميركي، على رغم التحفظات والمآخذ الكثيرة عليه، يبقى حيوياً في عملية سلام الشرق الأوسط، بما أن واشنطن هي الأقدر بين دول العالم، على ممارسة ضغوط على إسرائيل لحملها على تقديم تنازلات والاستجابة لنداء السلام، ولو بعد حين.

* كاتب مصري.