روسيا أمام معضلة. ففي الاجتماع الأخير في إطار عملية أستانة، في 30 و31 تشرين الأول المنصرم، أعربت عن نيّتها تحويل جهودها الديبلوماسية من نزع فتيل العنف في سوريا نحو العمل على التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع السوري. لهذه الغاية، أعلن المسؤولون الروس عن نيّتهم عقد مؤتمر للحوار الوطني السوري في مدينة سوتشي [والذي كان مقرراً في الأصل عقده في 18 تشرين الثاني]. على الرغم من الالتباس السائد راهناً حول مصير المؤتمر، عكسَ الإعلان الروسي ثقة موسكو المتزايدة بأن النظام السوري بات في وضعية آمنة الآن، وبأنه على المعارضة القبول بواقع الأمور على الأرض، وبأن التسوية عن طريق التفاوض، نقلاً عن كلام للأسد نفسه، لن تُحقق سياسياً ما عجز خصومه عن تحقيقه في ساحة المعركة.
لكن من خلال تقديم روسيا نفسها في صورة الوسيط الأساسي للتوصل إلى اتفاق سلام، برزت إلى الواجهة التشنّجات والتناقضات بين مسار أستانة وأطر العمل الديبلوماسية المعترَف بها دولياً التي أنشئت لتسوية النزاع السوري. وهنا تكمن المعضلة الروسية.
بإمكان موسكو استخدام عملية حوار وطني مدبَّرة ومرسومة مسبقاً – تستثني مكوّنات أساسية في المعارضة وتَحدث خارج الأطر الدولية المتّفق عليها – من أجل هندسة تسوية سياسية مزيّفة للنزاع السوري. إلا أن هذه التسوية سوف تفتقر إلى الشرعية والصدقية الدوليتَين، وسوف تدفع بالقوى الغربية إلى التمسّك أكثر برفضها دعم إعادة الإعمار في سوريا، ولن تقدّم الكثير لمعالجة المظالم العميقة التي كانت خلف اندلاع الانتفاضة السورية في المقام الأول. في المقابل، بإمكان روسيا أن تعترف بأن عملية أستانة قد استنفدت نفسها، وتُلقي بثقلها الكبير خلف الجهود الآيلة إلى تحقيق انتقال سياسي مثمر في سوريا، حتى لو أبدى الأفرقاء الذين يدورون في فلكها في دمشق، وكذلك شريكها الإيراني، اعتراضهم. لا بد من اتخاذ هذه الخطوات إذا كانت روسيا ترغب في التوصل إلى تسوية تتمتع بالشرعية والصدقية على الساحة الدولية، وفي تمكين القوى الغربية من تقديم الدعم لإعادة الإعمار، وإرساء آليات لمعالجة المظالم العميقة التي أدّت إلى اندلاع الانتفاضة في سوريا عام 2011 – وهو المسار الوحيد الذي يحمل الوعد بتحقيق سلام دائم في سوريا.
بعبارة أخرى، فإن روسيا، وعلى الرغم من تشديدها المتكرر على أنها تنظر إلى عملية أستانة بأنها مكمِّلة وداعمة لإطار جنيف برعاية الأمم المتحدة، تُقوِّض مزاعمها هذه كلما اتّجهت أكثر نحو مسار سياسي تقوده بنفسها. من شأن عقد مؤتمر للحوار الوطني لا ينبثق من الأطر الدولية المتَّفق عليها أن يؤدّي ببساطة إلى ترسيخ الاقتناع لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكبار الأفرقاء الإقليميين بأن روسيا تستغل الآليات الديبلوماسية لفرض حل عسكري على النزاع السوري.
بقدر ما ترى روسيا أن حصول التسوية السياسية على الشرعية الدولية هو أمرٌ مهم – من الواضح أنها ليست مسألة ذات أهمية بالنسبة إلى دمشق – لقد بلغت نقطة حسّاسة في موضوع اتخاذها قراراً بهذا الشأن. فهي بإمكانها أن تحوّل عملية أستانة مساراً سياسياً على حساب جنيف، أو بإمكانها القبول بأن مهمة محادثات أستانة قد أُنجِزت، والعودة إلى إطار جنيف، وممارسة نفوذها على دمشق الذي اكتسبته بشق النفس كي تعمل من أجل التوصل إلى تسوية سياسية تعكس بصورة كاملة أحكام قرار مجلس الأمن الدولي 2254 وبروتوكول جنيف الذي يُشير إليه القرار.
مما لا شك فيه أن روسيا ترغب في الحفاظ على عملية أستانة مع الإبقاء على إطار جنيف لإضفاء شرعية عليها. إنما يتّضح بصورة مطردة أنه لا يمكنها القيام بالأمرَين معاً. سوف تكون للطريقة التي ستلجأ إليها روسيا من أجل إيجاد حل لهذه المعضلة تداعيات مهمة على مستقبل سوريا. وسوف ترتدي المقاربة التي ستعتمدها أهمية في تحديد إذا كانت التسوية السياسية ذات صدقية ومشروعية، وتتضمن خططاً ملموسة للانتقال السياسي، وتشقّ مساراً نحو تحقيق سلام واستقرار دائمَين في سوريا موحّدة في أراضيها، أم لا.
أستاذ في الدراسات الشرق أوسطية في سميث كولدج. ترجمة نسرين ناضر |