التاريخ: أيلول ٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
«الحشد الشعبي» و «حزب الله» والجيشان العراقي واللبناني - راغدة درغام
التطوران اللافتان في جهود قيادات «الحرس الثوري» الإيراني في كل من العراق ولبنان يصبّان في خانة فرض مشروعية النموذج الذي أنتجته الثورة الإيرانية، وهو تزاوج الجيش النظامي مع المنظومة العسكرية الموازية له، بحيث يكون «الحشد الشعبي» في العراق القوة العسكرية الموازية للجيش العراقي، ويكون «حزب الله» القوة العسكرية الموازية للجيش اللبناني، تماماً كما هو «الحرس الثوري» المنظومة العسكرية الفاعلة ذات الوزن الموازي للجيش في إيران. هذا المشروع واجه مقاومة تستحق التوقف عندها والتعمق في تداعياتها ليس فقط على القائمين على المشروع ومنفذيه، وإنما على مستقبل العراق ولبنان. فهناك مقاومة شيعية في العراق لتشريع النموذج الإيراني وفرض مشروعية «الحشد الشعبي» على الجيش العراقي. وهناك شراكة حكومية وشعبية في لبنان في وجه إصرار «حزب الله» على فرض مشروعيته على الجيش اللبناني ليس فقط من رئيس الحكومة سعد الحريري وإنما من الرئيس ميشال عون الذي يضع الجيش اللبناني في صدارة المشروعية. طهران تخشى أن يكون التقارب العراقي- الخليجي جسراً الى انحسار مشروعها الذي يقتضي احتواء الجسور العربية. إنما ترى في لبنان الجسر الضروري لتأهيل سورية عربياً كمدخلٍ لإعادة تأهيلها دولياً. الشراكة الأميركية- الروسية في سورية والعراق مهمة في هذا الإطار. ففي لبنان هناك قرار دولي بمنع تفجيره أمنياً وبتمكين الجيش اللبناني من القيام بمهمته التقليدية بمشروعية كاملة بلا شراكة «حزب الله»، بل بقطع الطرق على كل مساعي الحزب الرامية لتطبيق النموذج الإيراني في لبنان. وفي العراق، يوجد توافق أميركي- روسي على رفض استقرار نموذج «الحرس الثوري» في فرض مشروعية «الحشد الشعبي» على الجيش العراقي. الشراكة الخليجية في هذا التوافق تظهر في التقارب مع شيعة العراق الذي استدعى إيفاد طهران مسؤولين رفيعي المستوى لزيارة بغداد في مهمة طارئة. تظهر أيضاً في القرار السعودي الأخير لاستئناف الاهتمام بما يحدث في لبنان.

على رغم كل المهاترات والمزايدات في شأن مَن حرر الأراضي اللبنانية من «داعش» في جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك، ما حدث هو أن الجيش اللبناني حصل على مشروعية لا سابقة لها لأنه تصرّف للمرة الأولى استباقياً وليس رداً. أحد كبار المسؤولين اللبنانيين وصف تلك المشروعية بأنها «واقعية وليست عاطفية». وقال إن «حزب الله» لم يحصل على المشروعية على رغم إصراره عليها لأن «لرئيس الجمهورية علاقة مميزة وعميقة، عاطفية وعملية، مع الجيش، فوجهه يضيء لدى ذكر الجيش أمامه. ولن يثنِيه شيء عن أولوية الجيش». أضاف أن «مؤسسة الجيش سليمة ومشروعية وطنية وذلك نتيجة المعركة التي خاضها في رأس بعلبك والقاع».

واشنطن مهتمة جدياً بالجيش اللبناني وحريصة على بقاء المؤسسة العسكرية سليمة بلا الشراكة التي يستقتل «حزب الله» لفرضها. وبالتالي، لم يحصل الحزب على ما أراده على رغم اندفاعه وتشغيل آليته الإعلامية الفاعلة. فالجيش لم ولن يقول إن «حزب الله» شريكه في المشروعية. وهذا يحرم الحزب من تطبيق نموذج «الحرس الثوري» الإيراني في لبنان.

المسعى الآخر الأساس في استراتيجية «حزب الله» هو إتمام «زواج» النظامين في سورية ولبنان، ليس عبر زيارات سرية طالما قام بها أقطابه الى دمشق طوال السنوات الأخيرة نظراً لكونهما حليفين بكل أبعاد معنى التحالف بينهما، وإنما يريد الحزب «زواجاً» رسمياً علنياً يؤدي الى استعادة دمشق الشرعية العربية عبر البوابة اللبنانية لكسر الطوق العربي عليها.

الأميركيون والسعوديون يتوافقون الرأي برفض إقحام مشروعية «حزب الله» على الجيش اللبناني وهم يميزون بين شراكة الأمر الواقع مع «حزب الله» في الحرب على «داعش» في الأراضي السورية وبين محاولات فرض الحزب نفسه على الجيش اللبناني على نسق نموذج «الحرس الثوري» والجيش النظامي في إيران. واشنطن مصرة على تنفيذ الدولة اللبنانية تعهدها بأنه لن تكون هناك شراكة بين الجيش و «حزب الله». السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي، تبنت المواقف المتصلبة في شأن ولاية «اليونيفيل» ومهماتها في جنوب لبنان وتنفيذ القرار 1701 بحذافيره تأكيداً للفصل التام بين مشروعية الجيش اللبناني وبين خصوصية «حزب الله».

إدارة ترامب غامضة في أدائها سورياً بالذات من ناحية صمتها على الامتداد الإيراني الفعلي في جغرافيا «داعش»، وهي جغرافيا الممر أو الهلال الذي يربط طهران بلبنان عبر العراق وسورية. هذا الصمت قد يكون تكتيكياً موقتاً تفرضه الاستراتيجية البعيدة المدى، وقد يكون إفرازاً للتخبط الأميركي الذي طالما استفادت منه طهران. الجزم سابق لأوانه في هذا المنعطف.

الواضح أن إيران باقية «جزءاً من استمرار الاضطرابات في الشرق الأوسط وليست جزءاً من الاستقرار في المنطقة»، بحسب قول أحد المخضرمين في قراءة المشهد السياسي. أصحاب هذا الرأي يقولون إن الأميركيين لن يسمحوا بشرعية استقرار إيران في البحر المتوسط، وبالتالي، ستبقى إيران عنوان اللااستقرار وسيبقى لبنان ذخيرة ممنوعة عليها. يقول هؤلاء إن التوافق الأميركي- الروسي على إخراج الميليشيات من سورية سيتم خلال سنة أو سنتين، وعندئذ يعود «حزب الله» الى لبنان بكثير من علامات الاستفهام حول أدواره لبنانياً. يقولون إن إيران ليست ولن تكون في وارد فتح جبهة الجنوب اللبناني مع إسرائيل التي أراحتها الحرب السورية وضمنت لها حدوداً آمنة، بل قضم الجولان، فإما يُترجَم ذلك بتهادنية مريحة للبنان أو في إصرار «حزب الله» على التعويض عن شعار المقاومة ضد إسرائيل بفرض أجندته على الداخل اللبناني.

عراقياً، الأمر يختلف في نواح عدة. العراق أكثر أهمية في الموازين الإيرانية- الخليجية مما هو لبنان في الموازين الإيرانية- الإسرائيلية المحيّدة بقرار روسي- أميركي وبموافقة إيران واسرائيل. العراق يقع اليوم في عين عاصفة التقسيم الذي تقول واشنطن وموسكو إنهما تعارضانه. كلاهما يتفق على أولوية الجيش النظامي على مشاريع «الحشد الشعبي» الإيرانية. إنما الأهم هو قرار شيعة العراق العرب الذين لا يستسيغون فكرة تسلط النموذج الإيراني عليهم. هؤلاء هم أصحاب مشروع استعادة مركزية العراق في الحضن العربي واستعادة الحضن العربي لمركزية العراق. وهذا لا يعجب طهران. لذلك أسرعت الى استدراك الضرر الذي خلفته ممارسات « الحرس الثوري» ومشاريعه فتوجه الى بغداد هذا الأسبوع رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» هاشمي شاهرودي رجل الدين الذي يحمل الجنسية العراقية بالولادة ومعه الامين العام للمجلس محسن رضائي بهدف «ترميم» أرضية «التحالف الشيعي». السبب الآخر بالمقدار ذاته من الأهمية وراء قلق القادة الإيرانيين هو التقارب الحاصل بين قيادات عراقية شيعية مثل رئيس الوزراء حيدر العبادي والزعيم الديني مقتدى الصدر مع السعودية.

الجانب الإيراني يتباهى دوماً أنه الشريك والحليف الذي يمكن الاتكال عليه بتماسك وفعالية وليس بإقدام هنا وإقلاع هناك على نسق النموذج الأميركي في العلاقات مع الحلفاء والشركاء. يراهن الجانب الإيراني على وهنٍ ما يصيب الاندفاع الخليجي الجديد لفتح صفحة مهمة في العلاقات مع العراق والحماس الأخير للتأثير في الساحة اللبنانية، بما يمنع «حزب الله» من ترسيخ نفوذه في المشهد السياسي وسيطرته على الحكم في لبنان. هناك تاريخ يدعم التباهي والرهان الإيراني، آثاره واضحة في العراق وسورية ولبنان. فإذا أرادت الديبلوماسية الخليجية أن تحتوي الضرر من الانطباع بأنها قصيرة الصبر، من الضروري أن تستثمر في استراتيجية تفنّد المزاعم الإيرانية وتُفشل الرهانات على تراجع حتمي للاندفاعات الخليجية في العراق واليمن وفي سورية ولبنان. فالشراكات صعبة في أي حال من الأحوال، وهناك اليوم حاجة ماسة لصناعة شراكات مختلفة نوعياً واستراتيجياً وعملياً عن تلك التي ساهمت في صياغة الانطباع بأنها شراكات غير متكافئة وستبقى عابرة.

إيقاف محاولات توأمة الجيوش العربية التقليدية مع الجيوش غير النظامية في العراق ولبنان واليمن، وكذلك سورية، بالغ الضرورة، لأن نجاحها يعني عملياً النجاح في تصدير الثورة الإيرانية ونموذج الحكم في طهران.