التاريخ: أيلول ٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
بعد 70 عاماً على تقسيم الهند... دروس إنشاء الدول على أسس دينية - حمد فايز فرحات
مرت الذكرى السبعون لاستقلال كل من الهند وباكستان عقب قرار تقسيم شبه القارة الهندية على أساس ديني إلى دولتين، إحداهما للهندوس والبوذيين والسيخ وأقلية مسلمة (الهند)، وأخرى للمسلمين (باكستان). وجاء هذا التقسيم محصلة نهائية للسياسة الاستعمارية، وللصراع بين النخبة الهندوسية، بقيادة حزب المؤتمر وجواهر لال نهرو من ناحية، والنخبة المسلمة بقيادة «الجامعة الإسلامية» ومحمد علي جناح من ناحية أخرى. انطلق هذا التقسيم من افتراض مؤداه أن إنشاء دولة للهندوس وأخرى للمسلمين يمثل شرطاً ضرورياً، وربما كافياً من وجهة نظر النخبة المسلمة بالأساس، لتحقيق الاستقرار في شبه القارة.

الذكرى فرصة لاستخلاص درسين مهمين: الأول، يتعلق بعدم دقة الافتراض الخاص بأن التقسيم على أسس دينية يمثل شرطاً كافياً لبناء دول مستقرة وفاعلة، فقد انطلقت النخبة المسلمة بقيادة محمد علي جناح بأن التشابه الديني يمثل شرطاً كافياً لبناء دولة مستقرة وفاعلة للمسلمين، بل شرطاً كافياً لبناء «القومية» الباكستانية. على هذا الأساس رفضت «الجامعة الإسلامية» مفهوم «القومية الهندية» الذي طرحه حزب المؤتمر قبل عام 1947 كأساس لدولة الهند (البريطانية) بعد الاستقلال، والذي كان من شأنه -وفق تصور «الجامعة الإسلامية»- تهميش المسلمين وتحويلهم إلى «أقلية»، بل القضاء على الإسلام في شبه القارة الهندية.

وبمعنى آخر، تبنت «الجامعة الإسلامية» مفهوماً دينياً للقومية يقضي باعتبار مسلمي شبه القارة الهندية «قومية» متمايزة أساسها الانتماء إلى الدين الإسلامي والثقافة والتقاليد الإسلامية.
وقد مثل هذا المفهوم خروجاً عن المفهوم الذي تبنته حركات التحرر الوطني في مجتمعات العالم الثالث في ذلك الوقت، بما فيها حركات في العالم العربي والإسلامي تبنت مفهوم «القومية» بالمعنى الأوروبي المستند إلى عناصر الأرض واللغة والتاريخ والعرق... إلخ، والذي اتسم بمقدار كبير من العلمانية، حيث تم تهميش الدين كأساس للهوية والوحدة الوطنية، أو على الأقل اعتباره أحد مصادرها. وقد أدى هذا التباين بين الجانبين إلى اتساع الهوة بين حركة «الجامعة الإسلامية» وحركات التحرر الوطني في العالم العربي والإسلامي، وظلت العلاقة بين الأخيرة وحركة التحرر الوطني الهندية بقيادة حزب المؤتمر أقوى من العلاقة بين حركة «الجامعة الإسلامية» ومثيلاتها في العالم العربي والإسلامي والتي نظرت إلى «الجامعة الإسلامية» على أنها فكرة دينية غير قابلة للحياة.

ثم جاءت تجربة الدولة الباكستانية خلال السبعين عاماً الماضية لتؤكد عدم دقة الافتراض الذي انطلقت منه حركة «الجامعة الإسلامية»، إذ لم تكن الرابطة الدينية شرطاً كافياً لا لبناء «القومية» الباكستانية المنشودة، ولا لبناء دولة مستقرة. فمن ناحية، وبمجرد تأسيس الدولة الباكستانية الجديدة، سرعان ما اكتشفت المجموعات العرقية واللغوية الباكستانية أن الانقسامات والتمايزات القائمة بينها أقوى من الرابطة الدينية. وسرعان ما بدأت المشكلات القومية في الظهور. وكان إقليم «باكستان الشرقية» هو الساحة الأبرز للصراع بين القومية البنغالية والدولة الجديدة. وقد استند هذا الصراع إلى عوامل موضوعية، تتعلق بعدم قدرة الدولة الجديدة على احتواء مشاعر ومطالب البنغاليين. فعلى رغم أن الأخيرين كانوا يشكلون نحو 54 في المئة من حجم السكان إلا أنهم لم يحصلوا إلا على تمثيل ضئيل داخل الهيكل البيروقراطي المدني والعسكري، وداخل النخبة الحاكمة، والوظائف العليا، والاستثمارات القومية، وهو ما دفع البنغاليين إلى إعادة النظر في جدوى الارتباط بالدولة الجديدة.

وعلى رغم انتهاء مشكلة البنغاليين بالانفصال وتأسيس دولتهم في عام 1971 (بنغلادش)، فإن هذا لم ينه مشكلة العلاقات القومية في باكستان، فلا تزال مشاعر الغبن القومي قائمة لدى «البشتون» و «البلوش»، وهي مشكلات تعود إلى ما قبل قرار التقسيم. فقد عرفت منطقة الحدود الشمالية الغربية (منطقة تركز البشتون)، أشكالاً مختلفة من التنظيم السياسي والحزبي على أساس عرقي قبل تأسيس الدولة، سعت إلى التأثير في مشروع التقسيم والبدائل المطروحة في استفتاء عام 1947، حيث حاولت تضمين تشكيل دولة «بشتونستان» المستقلة على إقليم الحدود الشمالية الغربية ضمن تلك البدائل. وإزاء فشلها في تضمين هذا البديل، استمرت النزعة القومية البشتونية، خصوصاً في مواجهة القومية «البنجابية» بسبب سيطرة البنغاليين على المواقع القيادية السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى حالة التهميش الاقتصادي والاجتماعي التي يعاني منها إقليم الحدود الشمالية الغربية. الأمر ذاته بالنسبة لقومية «البلوش»، التي يرجع ظهورها أيضاً إلى مرحلة ما قبل التقسيم. وكان البريطانيون اعترفوا في آب (أغسطس) 1947 باستقلال الإقليم، بل إن محمد علي جناح ذاته وقع على وثيقة إعلان استقلال بلوشستان، ولكنه نجح في استمالة حاكم الإقليم وضمه إلى دولة باكستان في آذار (مارس) 1948. ولم تنته مشكلة القومية البلوشية بضم الإقليم إلى دولة باكستان، ولكنها ظلت قائمة بسبب حالة التهميش الاقتصادي والسياسي للإقليم. ولا تزال هدف «بلوشستان الكبرى» هدفاً للحركة القومية البلوشية.

ومن ناحية أخرى، أدى اعتماد الدين كأساس للقومية والدولة في باكستان إلى الخلط الكبير بين الدين والسياسة. كان ذلك واضحاً في التوسع في تأسيس الأحزاب الدينية، التي أضحت الفاعل الأقوى داخل الحياة السياسية، الأمر الذي أدى في التحليل الأخير إلى إضعاف الأحزاب المدنية، وتحول باكستان -بجانب عوامل أخرى- إلى بيئة خصبة لنمو وانتشار التنظيمات الدينية المتشددة والإرهابية.

وفي المقابل، فقد أدى تبني النخبة الهندوسية مفهوماً علمانياً للقومية والهوية إلى نتائج مغايرة للتجربة الباكستانية. فقد كان ذلك عاملاً مهماً لتطور نظام سياسي ديموقراطي قادر على استيعاب حالة التعددية الدينية واللغوية الشديدة داخل الهند.

وهكذا، فإن الدرس الأساسي الذي تمكن إعادة التأكيد عليه مرة أخرى، أن التشابه الديني لا يصلح شرطاً كافياً لبناء «القومية»، ولا شرطاً كافياً لتجاوز الانقسامات العرقية واللغوية، فهذا التشابه لا يغني عن وجود نظام سياسي ديموقراطي لديه القدرة على تمثيل واستيعاب تلك المكونات. وعلى العكس، فإن وجود النظام الديموقراطي بإمكانه بناء قومية وهوية وطنية تجب التمايزات الدينية واللغوية والعرقية.
 
الدرس الثاني
الدرس الثاني أن التقسيم لم يكن كافياً أيضاً لإنهاء حالة الصراع بين المسلمين والهندوس، إذ كان الافتراض أن التقسيم على أساس ديني سيضمن انتهاء كل أشكال الصراع في شبه القارة الهندية، لكن هذا لم يحدث. فما أن تم التقسيم حتى بدأ صراع تاريخي بين الجانبين، نشبت في إطاره ثلاثة حروب نظامية (1947/48، 1965، 1971)، بالإضافة إلى سلسلة من الأزمات السياسية المتكررة والصراعات المنخفضة الحدة التي كادت أن تتحول إلى حروب نظامية. وعلى رغم أن هذا الصراع دار بالأساس حول إقليم كشمير المتنازع عليه، بسبب عدم اتفاق الطرفين على آلية محددة لحسم مستقبل الإقليم بعد تطبيق قرار التقسيم، فإنه لا يمكن اختزال الصراع بين الجانبين في تلك القضية. إذ يمكن القول إن الصراع على كشمير مثل في -أحد جوانبه- أداة لتأكيد الهويات المتناقضة، الهوية الإسلامية في مواجهة الهوية الهندوسية. فقد لعبت الأحزاب السياسية، والجماعات الدينية المتشددة، والجيوش، لدى الجانبين دوراً كبيراً في استخدام الصراع على كشمير كأداة لتأكيد الهوية، من ناحية، وكأداة للحفاظ على مكاسبها ومصالحها وأدوارها التاريخية، من ناحية أخرى. ويفسر ذلك حرص هذه القوى على تكييف الصراع على أنه صراع ديني وليس صراعاً سياسياً.

تسبب هذا الصراع بتكاليف اقتصادية ضخمة، أخذت أشكالاً مختلفة، أبرزها الإنفاق العسكري الضخم والتأثير السلبي على عملية تخصيص الموارد. وعلى سبيل المثال، بينما بلغ متوسط الإنفاق العام السنوي على التعليم في باكستان (وفق بعض التقديرات) 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة (1995-1997)، كان متوسط الإنفاق العسكري 5.1 في المئة. أضف إلى ذلك حجم الإنفاق على برنامج التسليح النووي والذي لا تتوافر حوله تقديرات محددة بسبب عدم إدراجه في الموازنة العسكرية.

وبالإضافة إلى التكاليف المباشرة، لا يمكن إغفال ما يعرف بتكلفة الفرصة البديلة ممثلة في المكاسب الاقتصادية التي كان من الممكن تحقيقها في وجود علاقات طبيعية بين الجانبين، خصوصاً في مجالي التجارة والطاقة. وعلى سبيل المثال، بلغت قيمة الصادرات الباكستانية إلى الهند في عام 2001/2002 حوالى 65 مليون دولار فقط، بنسبة 0.74 في المئة من إجمالي الصادرات الباكستانية، بينما بلغت قيمة الصادرات الهندية إلى باكستان في العام ذاته حوالى 186 مليون دولار، بنسبة 0.42 في المئة من إجمالي الصادرات الهندية، بنسبة إجمالية لا تتعدى 0.48 في المئة من إجمالي صادرات البلدين، وذلك بالمقارنة باعتماد باكستان على السوق الهندية في تصريف 56 في المئة من إجمالي الصادرات الباكستانية خلال مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة (1948-1949) والحصول على 32 في المئة من وارداتها من السوق ذاتها. ولا شك في أن حجم التجارة التي كان من الممكن خلقها بين البلدين في ظل علاقات طبيعية كانت ستفوق بكثير حجمها في ظل هذه العلاقات الصراعية لأسباب عدة، منها أنهما أقرب إلى الشريكين التجاريين الطبيعيين بالنظر إلى التجاور الجغرافي، وارتفاع حجم التجارة غير الرسمية (التي تتم عبر شريك تجاري ثالث)، والعضوية المشتركة برابطة «سارك» التي تسعى إلى توسيع حجم التجارة بين أعضائها. ويمثل تعثر مشروع نقل الغاز من إيران إلى الهند عبر الأراضي الباكستانية أحد أشكال الفرص البديلة للصراع.

وإزاء هذه التكاليف الضخمة تنامت خلال السنوات الأخيرة اتجاهات تدعو إلى مراجعة طبيعة هذا الصراع. وعلى سبيل المثال، دعت عناصر من النخبة الباكستانية إلى إعادة النظر في الأدوات الباكستانية في إدارة الصراع حول كشمير. وأصبحت الصحف الناطقة بالإنكليزية تلعب دوراً مهماً في التعبير عن هذا الاتجاه، وقد ركزت على إبراز الخسائر السياسية الباكستانية نتيجة تبني أدوات معينة في إدارة هذا الصراع. وكان أهم مؤشرات المراجعة على المستوى الباكستاني اعتراف السيدة بينظير بوتو في مقال لها بعنوان «كامب ديفيد من أجل كشمير في جريدة «نيويورك تايمز» في الثامن من حزيران (يونيو) 1999 أن سياساتها تجاه كشمير قد غذت التوترات بين الهند وباكستان، كما رأت أن ربط العلاقات الثنائية بين البلدين بقضية كشمير كقضية وحيدة لم يحرز تقدماً ملحوظاً في تحقيق السلام في جنوبي آسيا.

وفي الجانب الهندي، شهد العقد الأخير نمــــو اتجـــاه نقدي داخل المجتمع يدعو إلى إعادة تقيـــيم السياسة الهندية تجاه كشمير والعلاقات الهنديــة - الباكستانية بشكــل عام، أدى إلـــى تزايد الإدراك بأن مشكلة كشمير قد حملت الهند أعباء سياسية واقتصادية باهظة. وقد اقترن بهذا الاتجاه تحول مهم في إدراكات الطبقة الوسطى والجيل الثالث، والتي اتسمت بإعلائها قيم المال والتجارة وتعظيم مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، والإعجاب بنمط الحياة الأميركية والغربية، الأمر الذي ساهم في تحول مهم في إدراكات هذه الفئات للصراع الهندي- الباكستاني بمختلف أبعاده، نتيجة الانفصام التدريجي عن الهند التقليدية بقضاياها ومشكلاتها التاريخية مع باكستان، بالمقارنة بالجيلين الأول والثاني خلال الفترة منذ تقسيم الهند في عام 1947 إلى نهاية عقد السبعينات تقريباً، واللذين عاصرا مرحلة التقسيم والخبرة الصراعية بين البلدين. فقد كشف استطلاع للرأي أجري على عينة من أبناء الطبقة الوسطى والمثقفين، خلال الفترة بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 وكانون الثاني (يناير) 1999، أن 45 في المئة أكدوا مسؤولية طرفي الصراع معاً عن الأزمات التي نشبت بينهما، مقابل تأكيد 27 في المئة على مسؤولية باكستان بمفردها، و2 في المئة للهند. وفي الاتجاه ذاته، أضحى لدى هذا الجيل قناعة متزايدة بمسؤولية النظام السياسي الهندي وآليات المنافسة الحزبية والانتخابية عن افتعال بعض الأزمات حول كشمير بهدف تحقيق مكاسب انتخابية. كذلك أكد 42 في المئة أن مشكلة كشمير سياسية، بينما اعتبرها 11 في المئة مشكلة دينية.

هذه المراجعات -والتي لاتزال محدودة نسبياً- استغرقت سبعة عقود، لكنها لن تكون كافية لتسوية الصراع التاريخي بين الجانبين، فتلك مسألة تحتاج إلى قرارات تاريخية تقوم على استخلاص خبرة قرار التقسيم، ودروس سبعة عقود من الصراع.
 
 
* كاتب مصري