التاريخ: آب ٢١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
فلسطين وكردستان والوجدان العربي - رستم محمود
بمعنى ما، كانت فلسطين ومسألتها أهم مؤلِّف للوجدان والذهن العربيين طوال القرن العشرين. ذُهل العرب لأن العالم كان يسير، وما زال، في سكةٍ معاكسة للعدالة المحضة والمنطق البديهي. كان «العقل العام» العربي يسأل العالم، وتحديداً اليهود، سؤالاً بسيطاً: إذا كان العالم «الحُر» قد خاض حرباً عالميّة ضخمة ضد النظام النازي في ألمانيا، كلّفت عشرات الملايين من الضحايا، وأحد أسبابها أن النازية كانت تسعى لأن تُنكر وتُلغي وجود اليهود، فلماذا لم ير هذا العالم الشعب الفلسطيني، ولماذا يسعى لأن يعوض اليهود/ الضحايا على حساب شعب آخر، وأن يصنع ضحايا آخرين، هم شعب فلسطين الذي يعيش على أرضه التاريخيّة ولم يعتدِ على اليهود!

كانت تلك القضيّة، التي هي في جوهرها مجموع إفراط النكران وفائض الهيمنة، والتي تحولت بالتقادم إلى معيار وآلية يفرز العرب بهما أصدقاءهم عن أندادهم. كانت هذه القضية الأمثولة والدلالة العُظمى على الخير والشر، الصلاح والطلاح.

قبل العرب، كان اليهود أنفسهم قد سألوا العالم، وبالذات الألمان، سؤالاً مُطابقاً لنظيره العربي: فإن كانت الإمبراطورية الألمانيّة قد تعرضت للتحطيم في الحرب العالميّة الأولى، على يد الروس والفرنسيين والبريطانيين، فلماذا على اليهود أن يدفعوا الثمن، وأن يكونوا ضحايا الثأر والقوة الألمانيّة المُتجددة، وأي شيء فعلوه حتى يسعى الألمان لمحقهم وإنكار وجودهم؟
اليوم، يسأل كردُ العراق العربَ، وبالذات عرب العراق وسورية السؤالَ الذي سأله العرب لليهود والعالم. لا يُقصد بالعرب هُنا تلك الجماعة العرقيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة التي تُحددهم في الذهن والمُخيلة القوميّة البعثيّة، بل العرب باعتبارهم الجماعة الثقافية واللغوية والوجدانية التي خضعت وجُرحت في الصميم لهول مأساة فلسطين طوال قرن، العرب باعتبارهم ضحايا النكران والمحق.

على سكة الاستقلال، يسأل كردي عادي نفسه: ما الذي يدفع أي عربي لأن يرفض استقلال كُردستان عن العراق، فالكُرد جماعة سُكانية إثنية ولغوية وشعورية وثقافية بذاتها، وهم متطابقون إلى حد بعيد، يعيشون على جغرافيتهم المتواصلة من دون انقطاع، ويملكون ميولاً موحدة إلى حد بعيد تخوّلهم أن يبنوا كياناً سياسياً مسالماً، في داخله ومحيطه. هذا فضلاً عن أن العراق بات مـــكاناً يولّد الحروب الأهلية الدورية، كما مارس كُل أشكال الاعتداء بحق الكُرد، وهو سيفعل ذلك من جديد لو استطاع. فوق ذلك، فالكرد لم يعتدوا على أحد، وبــالذات العرب. بل ثمة آلاف الضحايا منهم قضوا في سبيل القضايا العربيّة، واسهموا تاريخياً في رفد الثقافة والحياة العامة العربية بالكثير من الشخصيات. وأولاً وقبل كل شيء، هذه إرادتهم الحرة المطلقة.
لماذا إذاً يمكن أن يكون ثمة اعتراض عربي، على هذا الحق الذي يكاد أن يكون «حقاً بديهياً»؟!

بهذا المعنى، فالقبول باستقلال كُردستان، وحتى الدفاع عنه إذا لزم، يغدو نمطاً لاتساق الوجدان والعقل العربي مع ذاته. وعبر التاريخ كان ثمة الكثير من المواقف الشبيهة بهذا، إذ استــــطاعت كـــيانات وشعوب أن تغير موقعها وصورتها وعالمها الرمزي والخطابي، من خلال التفاعل الاستثنائي مع حدث ما، وقد اثبتوا من خلالها إجراء قطيعة مع ما كان قائماً في الماضي. لا يعني الأمر أن العرب كجماعة مارسوا بحق الكرد فظاعات بذاتها، لكن التجارب القوميّة العربيّة، في سورية والعراق، فعلت ذلك بكل إصرار ومـــباشرة. لذا فإن موقفاً عمومياً إيجابياً من قبل العقل العام العربي تجاه حق الكُرد البديهي في بناء دولتهم الخاصة، يثبت ثلاثة تفاصيل بسيطة وبالغة العُمق:

فمن جهة، أن الموقف العربي من قضية الشعب الفلسطيني ليس مُجرد نزعة عصبوية عرقية مع عرب فلسطين، بل خيار أخلاقي ووجداني مُدافع عن حق مُستلب. ونضج العقل العام العربي، لا سيما في سورية والعراق، قد وصل إلى سوية تجاوز معها المراهقة البعثيّة الإجرامية، السياسية والأخلاقية والروحية، وأن الذات العربية لم تعد تطيق الرهان القومي الساذج، الذي يربط حُسن أحوال العرب بضخامة الكيانات جُغرافيا وسكانياً وقوتها عسكرياً فحسب. وأخيراً، إن إشكال الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان التي تطالب بها الأغلبية العُظمى من العرب، ليست مجرد خيارات آنيّة وعابرة، بل جزء حيوي من تأثر العرب ومشاركتهم في العالم المعاصر.

الموقف العربي الإيجابي من استقلال كردستان سيكون مُطابقاً لجواب الألمان الإيجابي حيال اليهود بعد الحرب العالميّة الثانية، مع فارق أن الحق الذي سيأخذه الكُرد لن يكون على حِساب أحد، وأغلب الظن سيكون لمصلحة العرب.
 
 
* كاتب سوري