التاريخ: آب ١٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
مراجعة نقدية لـ"رحلة" سمير فرنجية - جهاد الزين
قرأتُ متأخِّرا كتاب سمير فرنجية: voyage au bout de la violence (رحلة إلى أقاصي العنف) الصادر بالفرنسية عن "لوريان دي ليفر- أكت سود". 

لديّ "مشكلتان" مع هذا الكتاب:

الأولى هي أنه يثير حزني في كل سطر من سطوره على فقدان مثقف سياسي من طراز رفيع استطاع أن يكون جزءا راسخا من تاريخ الأدب السياسي اللبناني بين 1968 وبين نيسان 2017 تاريخ وفاته و جزءا بارزا من تاريخ النخبة اللبنانية وتحولاتها واضطراباتها الفكرية والسياسية عبر انطلاقه كقيادي فاعل في الحركة الطلابية اللبنانية ما بعد العام 1967 حتى تحوُّلِه إلى صحافي ومراقب وناشط سياسي من ثم رجل سياسة محترف.

الثانية أن الوفاة، وفاته، والتقدير الشخصي لسمير فرنجية لدى عارفيه وحتى بين أخصامه يحولان دون أخذ القارئ حريته الكاملة في نقد بعض أفكاره الأساسية. وهذا اعتبار لا يعني الجميع ولكنني بالتأكيد أحد المعنيين به.

ينظر سمير فرنجية إلى مواجهة مزيارة الشهيرة عام 1958 بين بعض عائلات زغرتا المتصارعة انتخابيا وعلى مستوى لبنان منقسمة بين سياسة الرئيس كميل شمعون المحلية والعربية وأخصامه والتي كانت عائلته طرفاً رئيسيا فيها... ينظر إليها على أنها بداية العنف الشامل الذي سيصيب كل لبنان لاحقا ولاسيما اعتبارا من العام 1975. إذن هو يرى أن لبنان "تمزْيَر" أي أن تلك المجزرة كانت إرهاصا بعنف قادم. بهذا المعنى، وكما يعتقد مثقفون زغرتاويون اختبرتُ إجابتهم بطرحي عليهم السؤال التالي:

هل مجزرة مزيارة هي نتيجة لماضي الصراعات العائلية داخل هذه البلدة المارونية التي برزت منها شخصية ذات بعد وطني هي حميد فرنجية أم عمليا هي نوع صادم من تصعيد دموي لا سابق له في هذه الصراعات رغم مقدماتها؟

الإجابات كانت متفقة على أن فيها تصعيدا غير مسبوق وعنفا مختلفا عن الماضي يشي بانتقال "لبنان الكبير" وجماعاته نحو التعنُّف الوحشي.

يعتبر الكاتب في معرض تعداده لضحايا العنف أن والده حميد فرنجية هو أحدها عندما أصيب وبعد أشهر قليلة من موقعة مزيارة بفالج أقعده حتى وفاته بعد سنوات طويلة. ويضيف مجزرة إهدن التي أودت بطوني سليمان فرنجية وعائلته بعد عقدين حتى اغتيال رينيه معوض بعد ثلاثة عقود لنستنتج منه أن لعنة مزيارة لم تقف عند ضحاياها المباشرين بل لاحقت شخوص "عالمها" أنفسهم في سياق العنف اللبناني الأشمل.

إحدى النقاط الهامة في الكتاب والتي كان سمير فرنجية وراء تعميمها طويلا قبل صدور كتابه هي فكرة أن "ثورة الأرز" عام 2005 هي بداية ما سيصبح "الربيع العربي" عام 2011. هنا أختلف مع سمير فرنجية اختلافاً جوهريا بمعزل عن مبررات الحشد السياسي والشعبي الذي عكسته "ثورة الأرز".

لا ليست أحداث 2005 اللبنانية رائدة لـ"الربيع العربي" ولا حتى جزءاً منه لسبب أساسي هو أن الثورات العربية كانت كلٌ منها ثورة ضد النظام الحاكم في بلدها وليست ثورة ضد نظام حاكم في بلد آخر. هذه هي المشكلة العميقة التي ظهر لاحقا أنها أجهضت تظاهرات ساحة الشهداء في بيروت، إن لم تكن ألغتها. لم تكن ثورة لإصلاح أو تغيير النظام السياسي اللبناني، أي ضد نظام بلدنا بل ضد نظام بلد آخر. لا بل كانت القوى المنخرطة فيها مثل القوى المعادية لها قوى من صلب النظام الطائفي الزبائني اللبناني، باستثناء حركة شبابية مدينية هامشية وبعض المثقفين الليبراليين واليساريين وليس كلهم ( لأن معظم اليسار انقسم بين يسار سعودي ويسارإيراني إذا جاز التعبير!!). لهذا لا تنتمي حركة 2005 إلى "الربيع العربي" حتى لو نجحت في المساهمة بالضغط لانسحاب الجيش السوري من لبنان.

في ذروة تظاهرات 14 آذار كان هناك بين المتظاهرين قلة بالمئات أو بالألوف من "المواطنين" وكثرة بعشرات ومئات الألوف من "الطائفيين". تماما مثل التظاهرات المضادة ولو كان التنوّع الطائفي الشعبي والنخبوي في 14 آذار متفوقا على شبه الآحادية الطائفية الشعبية في 8 آذار.

غير أن الإنصاف هنا، إنصاف الكاتب، يتطلب تسجيل أن سمير فرنجية، رغم رأيه "الربيعي" هذا سيشرح بكل معرفة دقيقة بالحياة السياسية اللبنانية مسار وأسباب فشل التفاوض - التسوية بين أطراف الصراع الداخلي عبر ما يسميه "الثورة غير المحّققة" ( une revolution inachevee). ولكنه عندئذ سينتقل إلى هَمٍّ جوهري يطبع حياته السياسية كشخصية متنورة من ضمن النظام مع معرفة بالعجز التغييري وهو إطلاق شعار "العيش معاً" بدل التعايش.

أريد على هامش هذه المراجعة أن أصحح خطأً معلوماتيا وقع فيه الكاتب عندما تحدث عن "إعلان بيروت - دمشق، دمشق - بيروت". إذ يقول إن سمير قصير ألقاه في ساحة الشهداء. ربما كان الكاتب يقصد بيانا آخر مختلفا لأن سمير قصير كان في تلك الفترة قد مضى على اغتياله أكثر من سنة. هذا في الزمن أما في العمل نفسه فإن سمير قصير لم يكن في عداد الستة مثقفين لبنانيين وسوريين الذين اجتمعوا تباعا في مبنى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي و "تفاوضوا" على وضع صيغته. فرنجية يذكر خمسة من هؤلاء الستة في الهامش الذي يخصصه لسرد أسماء كثيرين من الموقِّعين عليه باستثاء السادس وهو من الجانب السوري. على أي حال هذا الإعلان الذي كان محاولة ثقافية فاشلة لإيجاد خطاب جامع لبناني سوري بمعزل عن حدية الاستقطاب القائم، له قصة أخرى لكن سمير فرنجية حدد بشكل عام المعنى النقدي للتعامل معه عندما انتقد في كتابه 14 آذار من حيث "عدم إعطائه الأهمية التي يستحق". وهذا ما انطبق يومها في الواقع على "8 آذار" أيضا.

 بحسه الثقافي السياسي العالي يفاجئك سمير فرنجية ببعض الاستشهادات إما المكتوبة أو المنقولة عن حديث شفهي وتنطوي على قوة توصيفية أو استشرافية مميّزة. بعض أبرزها ما نقله عن خليل الوزير ( أبو جهاد) الرجل الثاني في "فتح" في جلسة في منزل فرنجية خلال أحد أيام الحصار الإسرائيلي لبيروت في تموز 1982. قال له خليل الوزير في ما يشبه النبوءة بالانتفاضة الفلسطينيّة التي ستحصل بعد خمس سنوات وتنقل الصراع الأساسي الفلسطيني الإسرائيلي إلى الداخل حتى اليوم. قال: "يجبرنا الإسرائيليون على مغادرة هذا البلد (لبنان) ولكنهم لا يدركون أنهم بذلك يدعوننا للعودة إلى فلسطين.المعركة من الآن فصاعدا هي في الداخل (الفلسطيني).

 كتبتُ بعد وفاة سمير فرنجية في نيسان المنصرم أنه أمضى حياته العامة "قلقا على القلق اللبناني". بعد قراءتي هذا الكتاب أضيف أنه في "رحلته إلى أقاصي العنف" كان يمكن أن يصبح عنوان الكتاب : رحلة إلى مجاهل العنف. لان أقصى العنف هو غموضه، كما عندما ينقل سمير فرنجية، بمأساوية وطرافة، عن أحد الزعماء السياسيين قوله أنه لا يفهم "زعرانه" (اي الشباب الذين يحملون السلاح وراءه) ولكنه يحبّهم!؟