التاريخ: آب ١٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
فشلُ نُخَبِ مدينة بيروت - أنطوان قربان
لا بد من أن نكرّر بلا انقطاع أن "العيش المشترك" يعني "العيش سويّة في الحاضرة"، ولهذه الغاية، من الضروري أن يتمكّن نمط الحياة هذا من التفتّح والنمو في مساحة يحكمها المنطق المديني. غير أن لا شيء غريب بالنسبة إلى السياسيين بقدر المساحة المدينية. لا يفكّر السياسي إلا من منظار النطاقات المسيّجة والأراضي التي يمارس عليها سلطته. 

في مقال بعنوان "ما تعلّمته من لبنان" نشرته مجلة Esprit عام 1986، أعلن الباحث ميشال سورا: "لا أؤمن بوجود هوية لبنانية؛ وهذا لا يعني أنني لا أؤمن بلبنان [...] يبدو لي أن النزاع في لبنان يكشف [...] عن وجود مجتمع منقسم، وتالياً عن غياب مجتمعٍ مدني". أضاف أنه "من غير الوارد أن يُقام في الوقت الراهن نصبٌ للمدني المجهول، لأنه لا وجود لهذا المدني". في المقابل، بإمكان كل طائفة أن "تقوم بتعداد قتلاها وأولئك الذين تمكّنت من قتلهم في صفوف خصومها، الحقيقيين أو المتصوَّرين".

في تردادٍ لصدى ما قاله سورا، سألت ماي دايفي - أورباما في "دفاتر المتوسط" (Les Cahiers de la Méditerranée) عام 2017، لماذا لم يتمكّن بلدٌ أنعمت عليه الطبيعة بسخاءٍ من بناء دولة، و"ضمان التكافل بين الطوائف وإنشاء مجتمع مدني، والتي تشكّل العوامل الممهِّدة لقيام الأمة". تُعيدنا المسألة على الفور إلى إخفاق دينامية 14 آذار 2005 التي لم تتمكّن، على الرغم من نطاقها الواسع، من تحفيز مثل هذا التكامل. الفشل، ولو كان موقتاً، هو فشل بيروت كمساحة مدينية ومدنية للعيش المشترك.

لو كان سورا، الذي اختُطِف وتمت تصفيته في لبنان، لا يزال على قيد الحياة، لاعتبر أن السبب في هذا العجز الخلُقي هو العصبيات المختلفة التي تحرّك المجموعات البشرية في المشرق، أي الجماعات التي يجري أحياناً تضخيم هوياتها إلى درجة "ادّعاء ممارسة دورٍ مخلّص" شبه مسيحاني. يدافع سورا، على غرار ابن خلدون، عن فكرة أنه عندما يكون مجتمع الحاضرة في أزمة، تشكّل جميع جماعات المقصيّين في نهاية المطاف عصبيةً من أجل "غزو موقع السلطة والإفادة من الأزمة التي تدمّر الدولة". تصبح هذه الدينامية "قتلاً للحاضرة" عندما يتمكّن أحد المتنافسين من الاستحواذ على جميع مقاليد السلطة. هذه كانت حال الجماعة العلوية في سوريا، وهذه حال الجماعة الشيعية - "حزب الله" في لبنان حالياً. غير أن الفساد، والترف، والرغبة في الحكم من دون تشارُك السلطة تؤدّي في نهاية المطاف إلى تدمير المجموعة الأصلية، وظهور نوع جديد من العصبيات، عصبية جماعة أو طائفة جديدة. لن يكون بإمكان هذه الجماعة الاستمرار في السيطرة على السلطة إلا عبر إلغاء الحياة المدينية، ولا يمكن إلغاء هذه الحياة إلا عبر الحفاظ، مهما كان الثمن، على تعدُّد العصبيات الخاصة والمتناحرة. هذه هي الآلية المركزية لاستراتيجيا ما يمكن تسميته "ترييف الحاضرة".

هذه الآلية تشرح، بعد عام 1943 بحسب ماي دايفي، فشل مدينة بيروت ونخبها في أن تكون حاضِنة "العيش المشترك في الحاضرة" لأنه جرى "ترييف" هذه المدينة لصالح العصبيات الفئوية في الأرياف.

 في هذا الإطار يكمن فشل ظاهرة 14 آذار 2005 في الترجمة السياسية للتحرك. لم ينبثق عن جمهور 14 آذار 2005 مواطنٌ لبناني، بل تجزَّأَ هذا الجمهور إلى جماعات. على ضوء ذلك، نفهم في شكل أفضل انتصار أيديولوجيا معادلة "حزب الله"/ "التيار الوطني الحر" التي تقوم رؤيتها للدولة على مفهوم "الدولة - الجماعة". لا تتمتع هذه الدولة حتى بالوسائل التي تتيح لها أن تكون دولة شمولية؛ يمكن أن تصبح في أقصى الأحوال طغياناً مبتذلاً. الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا المنطق القاتل تقبله ضمناً المجموعات المتنافسة الأخرى التي انتهى بها الأمر كلها بالاستسلام من دون شروط. حتى الطوائف الحضرية والمدينية إلى درجة كبيرة، مثل المسلمين السنّة والمسيحيين البيزنطيين (الأرثوذكس والكاثوليك)، لوّثها الترييف. يتكوّن لدينا انطباعٌ بأنها تنظر إلى نفسها وتتصرّف من الآن فصاعداً كطوائف متسلّحة ليس بالولاء لمساحتها المدينية التقليدية إنما بعصبية الجماعة. السؤال الذي تثيره هذه الاعتبارات، في هذا الشرق المشتعِل، ليس "مَن سيحمي اليوم مسيحيي لبنان؟" إنما "هل المسيحيون مستعدّون للتخلي عن متصرفية جبل لبنان من أجل حماية لبنان الكبير، لبنان 1920 و1943، وعاصمته بيروت؟"

أستاذ في الجامعة اليسوعية