التاريخ: آب ١٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في الحاجة إلى ارتباط السياسة بالأخلاق - شفيق ناظم الغبرا
كيفما تناولنا موضوع الأخلاق والسياسة ومن أي زاوية بحثنا سنجد أن الحالة العربية تعاني من تناقضات لا يمكن وصفها إلا بالمدمرة في هذا الشأن، ولو حاولنا أن نعدد بعضاً من هذه التناقضات في ظل الاختلاف السياسي والنزاعات والحروب الأهلية سنجد أنها مرتبطة بغياب الأخلاق السياسية التي تتحكم بحس المسؤولية تجاه حقوق الناس وإنصافهم. هنا بالتحديد جوهر المشكلة. لقد عرفت منطقتنا بالاستئثار في صنع القرار وبغياب الأخلاق في السياسة، وبالتحديد في العقد والعقدين الأخيرين، وهذا عزز لدى النظام العربي روح الاجتثاث والتطرف في مواجهة الرأي الآخر.

إن التضييق على الكلمة يسهم في فصل الأخلاقي عن السياسي في البلدان العربية، وذلك لأن منع التعبير والتدخل لإبعاده يمثلان اللبنة الأساسية التي تشكو سوء الواقع وتنتقد الفساد كما تشير إلى الأزمات قبل وقوعها. إن بتر هذا الجانب في الحياة العربية يؤدي بطبيعة الحال إلى حماية الفساد في الإدارة والسياسة، كما أنه ينشر الخوف بين المؤسسات وفي محيط المجتمع. إن غياب حرية التعبير يؤدي إلى سقوط الرقابة المجتمعية ما يجعل صعباً إمكان اكتشاف الجرائم السياسية والإدارية ويجعل المجتمع عرضة للشائعات والتقلبات. في مجتمعات كهذه تنفق الثروة على تغطية الأخطاء، وتصبح المصلحة العامة عرضة لكل إعصار، بينما تتراكم المشكلات. وهذا يفتح الباب لحالة سياسية لا تعنيها الحالة العامة. وعند النظر إلى بعض الأنظمة العربية التي أسقطها جزئياً الربيع العربي نكتشف أنها لم تكن بالأساس تمتلك رؤية تخص المصلحة العامة، بل كان جانب أساسي من تصورات نخبها منكباً على تعظيم المكاسب الشخصية ومكاسب المجموعة الضيقة المرتبطة بها. لهذا وقعت الثورات بالأساس.

الأخلاق المرتبطة بالسياسة تتطلب الوعي بقيمة المصلحة العامة وبأن الدولة هي في الجوهر أداة لتطوير المجتمع والأفراد في كل مجال ممكن، وفي هذا يصبح تطوير المجتمع والتعليم وتحسين الخدمات والاعتناء بالعلم والاقتصاد من أساسيات أخلاقية السياسة. ومن أجل أن يقع هذا لا بد من درجة عالية ومتقدمة من العدل والأمانة تجاه مال المجتمع وحقوق الناس. هذا يتطلب درجة كبيرة وحاسمة من الفصل بين الشخصي والذاتي والسياسي وبين النظام وبين القيمين عليه. لو درسنا تجربة فنزويلا، سنجد أن الرئيس السابق هوغو شافيز سيطر على القرار السياسي بصورة مبالغ بها في زمن الوفرة المالية، وحمل في ذهنه مشروعه الخاص الذي لم تنتجه مؤسسات حرة فاعلة، وفي النهاية أرهقت سياسة شافيز ميزانية الدولة وتحولت الى دولة فاشلة غير قادرة على القيام بالحد الادنى من المسؤوليات. إن الاستئثار بالقرار السياسي والابتعاد من العمق الأخلاقي يؤديان إلى تصورات أحادية يصعب نقدها، لكن عندما تتضح سلبياتها يكون عادة أفق التصحيح قد أصبح متأخراً.

قلما يجد العالم العربي صعوبة في التأقلم مع متطلبات التكنولوجيا، لكن نخبه المسيطرة تجد كل الصعوبة في التأقلم مع ما يمس الفكر والحقوق والإنسان وتطوره وحرياته، وهذا جوهري لعلاقة السياسي بالأخلاقي. لدينا ميل للبقاء في مكان محدد وعدم الانتقال، وبينما تنتقل شعوب العالم قاطبة، يتحول هذا الجمود إلى أحد ألد أعدائنا. فأزمات العرب المستمرة مرتبطة بعدم اكتراثنا ببناء مؤسسات توازن سياسات السياسيين وتدافع عن حريات المواطنين والمواطنات وتوفر دساتير لديها آلية تطبيق ومحاكم فعلية مستقلة تنصف المواطن في التعامل مع من هم أقوى منه.

في بلادنا وصل الانحدار الأخلاقي إلى درجة أن يستطيع مواطن ذو صلات أن يتخلص من مواطن لا يمتلك الصلات ذاتها. يتم ذلك من خلال التأثير على صانع القرار واستغلال نقاط ضعف القضاء وعدم حيادية الدولة التي تتحول إلى طائفة أو قبيلة أو تحالف قبلي أو جماعة أو فئة. في بلادنا يذهب المرء إلى منزله مواطناً، وقد يكون في اليوم التالي بلا وطن وملكية أو حقوق، والسبب في ذلك ليس جرماً ارتكبه بل رأياً أعلنه وموقفاً اتخذه.

بسبب هذا الانفصام بين الأخلاقي والسياسي سنترك للجيل القادم عالماً عربياً منهكاً ومفككاً، مصاباً بالرعب من نفسه ومن صورته ما يجعله ضعيفاً مهزوزاً أمام الغرب كما الشرق، وأمام القوى العظمى كما الإقليمية. ليست المشكلة في الصراع السني- الشيعي أو في وجود مؤامرة إرهاب أو «دولة إسلامية» أو «حزب الله» أو غيره. هذه كلها مظاهر للمشكلة ولا تمثل جوهرها. إن ضعف الوازع الأخلاقي في التعامل السياسي هو الجرم الذي تشتق منه كل أنواع الجرائم التي ترتكب في منطقتنا، فعين المشكلة تتلخص في الاستبداد والاستئثار السياسي وطبيعة التحكم الذي لا تحده حدود.

لا بد أن نعترف بأن مشكلات العالم العربي هي من صنعنا، إضافة إلى ما تصنعه القوى الخارجية كقوى الاحتلال الإسرائيلي، فغياب الحرية والحقوق تدفع صناع القرار إلى اتباع سياسات متقلبة تتغير بين ليلة وضحاها وتفتح الباب لنزاعات تنفجر بين الطوائف بلا أسباب ولحروب تفتح علينا وحولنا بلا تقويم دقيق. السياسة في إقليمنا العربي مبهمة لأنها ليست وليدة المصلحة العامة ولا المؤسسات ولا الحوار العلني والحر ولا تنبع من تنافس الأحزاب، وهي ليست وليدة العقلانية والحرص على المستقبل. السياسة في بلادنا نتاج مباشر للصفقات والحسابات المالية الشخصية الضيقة وهي أيضاً وليدة النفوذ والسيطرة وضعف المعرفة. وضع كهذا لن يستمر من دون مزيد من العنف والفوضى والدول الفاشلة.

لقد بدأنا هذا المقال بسؤال عن علاقة الأخلاق بالسياسة، فغياب هذه العلاقة أدى إلى عدم استقرار العرب وتفككهم وشعور نسب كبيرة من شعوبهم بالظلم وغياب العدل. لقد سلكت شعوب الإقليم طريق الثورة عام ٢٠١١ لكنها دخلت بعد الثورات في مواجهة حول الحقوق والأخلاق والعدالة التي ثارت من أجلها. سيجد العرب أنهم سيعودون مجدداً إلى سؤال الأخلاق: فالربط بين الأخلاق والسياسة من خلال التزام المصلحة العامة والمساءلة والعدالة وبناء المؤسسات سيحدد حراكات العرب المقبلة. إن السياسة المفرغة من القيم سلوك مدمر، ولهذا فهو سلوك غير قابل للاستمرار.
 
 
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت