«داعش» هو الاسم الجامع لكل التنظيمات الإرهابية المسلحة العاملة تحت اسم الإسلام، الى اي مذهب انتموا، أكان المذهب السني ام المذهب الشيعي. تقاطعت مصالح أنظمة الاستبداد العربي والدول الإقليمية والغربية على تفريخ التنظيمات بالمئات، فرعتها ومولتها ووظفتها وفق مصالح كل منها. وعندما تنتهي وظيفة الاستثمار فيها، يتم اختفاؤها من دون معرفة وجهتها كما حصل أخيراً في العراق الذي أعلن هزيمة «داعش» في الموصل من دون أن يخبرنا أهل النظام أين هم مقاتلوه الذين كانت اعدادهم تقدر بعشرات الألوف.
سيكشف التاريخ المقبل، القريب منه والبعيد، كيف جرى خلق هذه التنظيمات والوظائف المحددة لها، ما بدا منها حتى الآن، وما هو قادم مستقبلاً. أول الوظائف تتصل بضرب انتفاضات الشعوب العربية عبر تصويرها حركات إرهابية. لقد شكلت الانتفاضات التي اندلعت في 2011 حالة رعب للحكام العرب الذين اطمأنوا طويلاً الى عجز الشعوب العربية عن دق ابواب التغيير، وراهنوا على الإحباط واليأس الذي استوطن طويلاً في عقول وقلوب هذه الشعوب. اتت التظاهرات الحاشدة لتخرج الشعوب العربية من الكهف، وتكسر وهرة الديكتاتورية، وتستعيد حقها في السياسة والتعبير. وكان شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» أخطر ما تلمسته الديكتاتوريات العربية، فكان لا بد من إحباط هذه الظاهرة وإعادة الشعوب العربية الى سجنها الكبير. لا شك في أن الاستثمار في قمع الانتفاضات العربية حقق معظم أهدافه من خلال تحويلها الى حروب أهلية طائفية ومذهبية، وإن يكن استثمار لا مستقبل له، بعد أن كسرت الشعوب العربية الكثير من القيود التي جرى تكبيلها بها. في هذا المجال، يجب القول إن الدول الغربية التي تدعي الديموقراطية وحقوق الانسان، لم تكن مؤيدة لهذه الانتفاضات التي لو اتيح لها النجاح بإقامة أنظمة ديموقراطية، لكانت ستمس بمصالح هذه الدول التي تستنزف ثروات الشعوب العربية وتجعل من إسرائيل القوة الجاهزة لإدامة التخلف العربي. لذا تقاطعت مصالح هذه الدول مع أنظمة الاستبداد لوأد الانتفاضات ومنع نجاحها.
ثاني وظائف الاستثمار في «الدواعش» هو عودة الاستعمار بقواه العسكرية الى الاستيطان في المنطقة. تحت حجة محاربة الإرهاب، تكوّن تحالف دولي شارك فيه جمع من الدول العربية والاقليمية ناهيك بالغربية. كل واحد من هذه الأطراف يضمر أهدافاً غير محاربة «داعش»، مما جعل بلدان الانتفاضات العربية مسرحاً لجيوش أجنبية، استباحت الأرض العربية، وبنت قواعد عسكرية داخلها تمهيداً لإقامات دائمة فيها. تتصدر أربع قوى استعمارية هذه الاستباحة، هي روسيا وأميركا وإيران وتركيا، من دون أن ننسى موطئ قدم لكل من فرنسا وبريطانيا. يسعى كل طرف الى إقامة مناطق نفوذ له، بما يضمر تقسيماً واقعياً لجغرافية المنطقة تحت حجة حماية الطوائف والأقليات والحكام المتسلطين. يُذكّر المشهد الحالي بمشهد القرن التاسع عشر عندما قدمت الجيوش الأوروبية الى المنطقة لحماية هذه المجموعات من عسف السلطنة العثمانية، فيما كان هدفها النهائي اقتطاع مناطق نفوذ وتقاسم «الرجل المريض».
على رغم الضجيج المتصاعد اليوم عن قرب القضاء على «داعش»، الا أن الكثير من الشكوك تحيط بهذه التوقعات. «داعش» بات له بنيته الاجتماعية والسياسية، اضافة للعسكرية. كما يعلمنا التاريخ، ان بإمكان الحاكم المستبد خلق «وحش» يجابه به معارضيه، لكن السيطرة على هذا الوحش قابلة للافلات في اي لحظة والتحول نحو الحاكم الذي أوجده. لذا لن يكون مستغرباً ان يعمد «داعش» الى تواصل عملياته الارهابية من دون احتلال أراض. كما أن الحكام العرب سيظلون في حاجة الى فزاعة «داعش» كلما أحسوا أن شعوبهم قد تستعيد قواها وتسعى الى الإطاحة بهم. ينطبق الأمر على النظامين السوري والعراقي في شكل خاص، من دون أن نبريء سائر الأنظمة من هذا التوجه.
اذا كانت هزيمة «داعش» في العراق هي البارزة على السطح، مما سيطرح مبرر وجود الجيوش الإيرانية على أراضيه، إلا أن الاستثمار في «داعش» هذه المرة سيكون في سعي ملالي إيران وحرسه الثوري في تطويع المرجعية الشيعية في النجف وإلحاقها بالمرجعية الإيرانية في مدينة «قم»، وهو هدف لا تستكمل إيران سيطرتها على العراق من دون السيطرة الدينية. يتزايد الحديث اليوم عن دعوات للوحدة بين ايران والعراق.
لن يكون مبسطاً الحديث عن انتهاء «داعش»، فإذا كان احد أسباب ظهورها تلك الممارسات الطائفية المستقوية بالاحتلال الأميركي ضد مكونات طائفية اخرى، فإن ما يجري اليوم من إعلانات نصر مذهبية تترافق مع انتقامات وحشية ضد مجموعات مذهبية اخرى، خصوصاً في العراق وسورية، انما يؤسس كله لخلق «دواعش» قد تكون أخطر مما شهدناه حتى اليوم.
* كاتب لبناني |