التاريخ: تموز ١٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
قد ينتهي التنظيم وتبقى «الداعشية» - موسى برهومة
الضربات العسكرية التي يتعرض لها تنظيم «داعش» قد تنهي وجوده على الأرض التي أعلن عليها قيام «الخلافة الإسلامية» أواخر حزيران (يونيو) 2014. لكنّ أفكار التنظيم وتصوراته للحياة والدنيا لن تنتهي في الأفق المنظور، وربما لا تنتهي أبداً.

لقد حاكت أفكار «داعش» طبقات الوعي المتدنية في العقل العربي الإسلامي، ثم أصاب ذلك بالعدوى عقولاً أوروبية وأميركية، استنبتت لنفسها داعشية رديفة، تحت ذرائع انتقامية تصب في نهر العنف نفسه الذي أحال العيش إلى قدَر إرغامي صعب الاحتمال!

«داعش» استثمر في لحظة الانهيار النفسي والوجداني لدى الشعوب العربية الغارقة في وحل الهزيمة السياسية واليأس وانسداد الآفاق، ومهانة الكرامة القومية، وتردي الروح الجمعية، وتكالب الدنيا على «الحق» ونصرتها التي بلا حدود لـ «الباطل» وأعوانه، فحاز التنظيم تأييداً خرافياً تغذى، في البدء، من المظلومية المعكوسة لما يعرف بـ «أهل السنة» بعد أن كانت تلك المظلومية، لقرون، حكراً حصرياً للمكون الإسلامي الشيعي، وأثّثت مخياله الكربلائي.

وفي بوتقة التشدّد الذي اعتمده «داعش» صبّت كل نزعات العقل الباطني العربي، وخرجت إلى السطح المشاعر الدفينة تجاه المجتمع والمرأة والآخر والتعايش، فسقطت الأوهام المديدة، وذابت أوثان الشمع حول التسامح واحترام الأديان وتوقير الحساسيات الإثنية والمذهبية. كان «داعش» بمثابة البركان المرعب الذي أخرج مما استقر في باطن الأرض منذ آلاف السنين. سيندحر التنظيم كـ «دولة خلافة»، لكنه قد يعيد تموضعه هنا أو هناك، وقد ينتهي هذا التموضع حتى يعود القهقرى، فيعيد سيرة «القاعدة» وطرائق عملها، لكنّ خطره لن ينتهي على مستوى العنف المادي إلى الأبد. بيْد أنّ الذي سيبقى، وربما يتغلغل، هو ما سبّبه «فكر» هذا التنظيم في الوعي العربي الإسلامي الراهن من شروخ غوريّة، حيث أنعش التشدّد في مستوياته الدينية والسياسية والاجتماعية، وغذّى النزعات الثأرية لدى الخصوم الذين لطالما رفعوا من قبل شعار الحوار «بالتي هي أحسن».

التهدّمات التي أحدثها «داعش» من الصعب ردمها. خذ الخلاف السنّي- الشيعي، وشاهد لساعة واحدة فقط الفيديوات على «اليوتيوب» من كلا الطرفين. وخذ أيضاً التهديدات التي تطاول المسيحيين في المشرق العربي. وخذ الإكراهات الاجتماعية التي تواجه النساء، حيث أضحت المرأة رمزاً للفجور، وتنامت دعوات تسري كالنار في الهشيم، إلى السيطرة على لباسها وحركتها وكلامها وتفكيرها، حتى إن بعضهم دعا إلى فرض «شرطة دينية» للسيطرة على ما ترتديه النساء في الشارع، باعتباره مدعاة إلى «الفتنة والفجور»!

أما إن راح المهتم يرصد الخسائر المادية والبشرية التي تسبّب بها التنظيم في بلدين اثنين فقط: سورية والعراق، فالأرقام مرعبة، حتى ليخيل المرء أنّ الفتق اتسع على الراتق، فانسدت الكوى، ورُدمت الملاذات.

وما يزيد الصورة كآبة أنّ القوى المناهضة لأفكار «داعش» كشفت عن هشاشة بنيوية عميقة، فأهل اليسار، في جلهم، ناصروا الجلادين والقتلة، وراحوا يلتقطون الصور التذكارية معهم، وأما العلمانيون والليبراليون فظلوا معتكفين في أبراجهم الشاهقة، ومضوا يطلون على النيران من خلف شبابيكهم السوداء، ولم ينخرطوا، إلا شفاهياً في «المعركة». وليتهم لم ينخرطوا وبقوا متفرجين، لأنهم أظهروا في خطاباتهم نزعات إقصائية واستئصالية، جعلت الحرية والديموقراطية، والتعددية، واحترام الاختلاف، وتقدير الحساسيات الدينية، «يوتوبيا»، فانهار الخطاب، وسال الزبد على شفتيه!

ما تهدّم كبير ومتسع وعميق، ما يجعل البناء، وإعادة تأهيل المجتمعات العربية، نفسياً وروحياً، أمراً صعباً، فهذه المجتمعات الآن في مرمى الخرافة، والأنظمة المستبدة، والحركات الدينية التي أيدت «داعش» ضمنياً، ما يعني أنّ العرب بعد «داعش» خرجوا، كما يقول المثل الشعبي «من الدلف إلى المزراب»!
 

* كاتب وأكاديمي أردني