التاريخ: حزيران ٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في ما يخصّ الدولة ولاهوت السيادة - موريس عايق
خلال السنوات الأخيرة تمت استعادة مفهوم الدولة بشكل كثيف في المجال الدراسي والبحثي. استعادة لم تقتصر على تيار إيديولوجي بعينه، بل امتدت لتشمل غالبية التيارات. تبدو الاستعادة غريبة، خصوصاً أنها أتت بعد التبشير بالعولمة وما رافقه من انتظار وتوقع لضمور الدولة وحتى انحلالها. لكنها وفي الوقت ذاته أتت تعبيراً عن الحاجة الماسة إلى الدولة في مواجهة ما يبدو مخاطر العولمة وتحدياتها.

لا تنفصل استعادة الدولة في المجال النظري عن الرهانات السياسية، وهي مسألة لطالما حضرت في أي نقاش حول مدى علمية واستقلالية العلوم السياسية والاجتماعية عن السياسة ورهاناتها. هل هذا الفصل ممكن، مثلما هو متحقق في العلوم الطبيعية المستقلة عن توجهات ممارسيها وآرائهم، أم أنه غير ممكن، ويجب قبول هذا والتعامل معه، وصولاً إلى النظر إلى الدعوات التي تدعي الفصل بين العلوم الإنسانية من جهة والسياسة والدولة من جهة أخرى، باعتبارها إيديولوجيا خطرة يجب الحذر منها.

ميزة الاستعادة الحالية للدولة أنها تترافق مع نوع من الانتقائية، التي لا تقل إثارة عنها. الاستعادة الكثيفة لتقليد محدد في النظر إلى الدولة، وهو تقليد الحداثة المضادة، كما يمثله أبرز مفكريها كارل شميت. ابتداءً، ما يميز تقليد الحداثة المضادة في قراءته للحداثة عن حرد التقاليد ما قبل الحداثية وانعزالها، هو قبوله الحداثة كواقعة تاريخية ومن ثم مسعاه إلى مقارعتها على أرضها ومواجهتها عبر الكشف عن أساطيرها وتناقضاتها، مثل الكشف عن أصولها غير الحديثة، أي عن كونها صياغة معلمنة لمضامين لاهوتية، تجد جذورها في التراث والتقاليد المسيحية وليس في ادعاءاتها العقلانية.

دلل شميت، من جانبه، على أن المفاهيم التي تؤطر نقاشنا وفهمنا للدولة، والتي يتناولها من زاوية السيادة أو لاهوت السيادة، تعود في أصولها إلى اللاهوت. السيادة، باعتبارها الأساس لمقاربة الدولة، تقوم على أساس لاهوتي يحيل إلى سيادة الله، مفهوم تمت علمنته في العصر الحديث ونسبته تالياً إلى الدولة. فما نعنيه بسيادة الدولة هو الحق في التشريع، الحق في التحكم بمصائر البشر، بحياتهم وموتهم من خلال حقها في تقرير الحرب والسلم وإنزال العقاب، الحق في التحكم بثروات وموارد الأرض التي يعيش منها مواطنوها وحتى الأجيال القادمة منهم. سيادة الدولة تحيل إلى الحق النهائي للدولة في تقرير ما هو حق وباطل على أراضيها، وحقها في التحكم بكل ما يوجد عليها. الدولة-السيدة هي الصورة العلمانية لسيادة الله.

اللافت أن استعادة هذا التصور السيادي، القائم على لاهوت السيادة، لم تعد محصورة في تيارات الحداثة المضادة، بل إن صداها يتردد أيضاً في التيارات اليسارية وما بعد الحداثية.

تضعنا هذه الاستعادة المزدوجة في مواجهة مقاربتين حديّتين للدولة. المقاربة الأولى، المحافظة، تسعى لتكريس هذا التصور السيادي للدولة كنوع من الدفاع عنها وحمايتها، والتي تتماهى في شكلها الأبسط والأكثر سذاجة مع دولة الأمن القومي. بالتالي علينا قبول حكم الدولة أياً يكن، والنزول عليه.

المقاربة الثانية، وهي التي تهمنا هنا، هي المقاربة ذات النزوع النقدي تجاه الدولة، والتي تتبنى كذلك هذا التصور السيادي لها. تعترض هذه المقاربة على الدولة لكونها بطبيعتها ذات نزعة شمولية وتنزع إلى التغول، بحيث تتحكم في كامل مجالات حياة مواطنيها، قيمهم وأخلاقهم وأجسادهم والزمن الذي يعيشونه، مسقطة أية اعتبارات أخرى، كالاعتبارات الأخلاقية والدينية والتحررية، أو أنها تتلاعب بهذه الاعتبارات بما يخدم مصلحتها، فتجعلها في خدمة أهداف الدولة، التي لها السيادة العليا. فالدولة، بطبيعتها، تسعى إلى أن تتحكم بكل شيء وتحصره بها وحدها من دون وازع أخلاقي يضبطها.

ينتهي هذا النقد الجذري للدولة، المقرون بلاهوت السيادة، إلى خيار وحيد وهو رفض الدولة وضرورة الخروج من عالمها، طالما أن المشكلة لا تنحصر في شكل ما للدولة، بل في الدولة نفسها. خيار أناركي (فوضوي) يرفض الدولة ويخوض معركته من أجل زوالها التام كهدف لا محيد عنه. خيار يوتوبي وليس واقعياً، هذا طبعا ليس إن كنت أناركياً.

تتردد، مثلاً، أصداء هذا النقد في عمل وائل حلاق «الدولة المستحيلة». فهو يقارب الدولة الحديثة من منظور لاهوت السيادة، وعليه فإنه يسعى إلى التدليل على التناقض بين الدولة الحديثة، ذات السيادة، ونظام الحكم الإسلامي القائم على الشريعة، والذي يقوم على مبدأ سيادة الله. هذا التناقض يجعل من الدولة الإسلامية مستحيلة، فالدولة والإسلام يتنافيان مع بعضهما البعض بشكل مبدئي، طالما أنهما يتنازعان جذرياً في أمر السيادة.

لا يقتصر منظور لاهوت السيادة لدى حلاق على فهم الدولة، بل من خلاله يفهم حلاق أيضاً الشريعة الإسلامية، باعتبارها تعبيراً عن سيادة الله. يمكن المحاجّة ضد هذا الفهم السيادي للشريعة بأنه نفسه ليس إلا صورة مقلوبة للاهوت السيادة الخاص بالدولة. فسيادة الله هنا لا تدور حول أن الله خالق الكون وأنه المرجع الأخير، بل على أن «حكم الله» هو الإطار الذي يَنظم كامل مجالات حياتنا ويسودها، مذكراً بشعار الحاكمية.

في مواجهة هذا التصور السيادي يمكن للمرء استعادة مقاربات أخرى مثل الاستخلاف والمقاصد، والتي تدلل على أن القيم التي نستلهمها من الشريعة تُفهم من قبلنا كبشر، وأن أي تعاطٍ مع هذه القيم هو تعاطٍ بشري.

المهم في مَثل حلاق أنه يضعنا في مواجهة مأزق متمثل في دولة بلا أخلاق أو أخلاق بلا دولة، وهو مماثل للمأزق الأناركي والذي لا يرى إمكانية للتحرر إلا خارج الدولة، بينما مع الدولة لا وجود إلا للعبودية. وفي هذا الشأن يبدو حلاق متابعاً لتقليد قديم لدينا، سبق وأشار عبد الله العروي إليه، تقليد لا تُفهم فيه الحرية إلا خارج الدولة وليس فيها ومعها.

المعضلة الحقيقية في بلادنا، المنكوبة بدولها، أن المقاربة السيادية تؤول إما إلى التبرير للدولة، وهي لدينا دولة أمن قومي، أو إلى الانسحاب منها ورفضها، وبالتالي الهزيمة في معركة الديموقراطية والحريات حتى قبل خوضها.

من دون التنكر لما قدمته مقاربة لاهوت السيادة من أجل الوصول إلى فهم أفضل الدولة، فإن ما يجب التساؤل بشأنه هو جدوى التمسك التام بها في سياقنا الخاص، وهو سياق المواجهة مع دول سلطوية فاسدة من أجل انتزاع الديموقراطية وفرض حدود على سلطة هذه الدول ونفوذها وحصره في النطاق السياسي، ما يسعنا هذا، والحفاظ على استقلال الأنظمة الفرعية الأخرى، مثل الاقتصاد والأخلاق، بما يضمن للمجتمع حصانة في مواجهة تغول الدولة. ما نحتاج إليه هو مقاربة تدافع عن فصل السلطات، وهي مسألة يتم تهميشها تماماً في إطار المقاربة السيادية، حيث لا تعدو السلطات المختلفة عندها سوى أن تكون أقنعة متباينة لذات الوحش كما هو الحال الآن. مقاربة تسعى إلى التأكيد على أن الدولة الجيدة هي التي يكون مواطنوها أحراراً ومشاركين في تقرير المصلحة العامة، دولة ملتزمة بقوانين وقيم أساسية تضبط سلوكها. غير أن هذا الأمر لا يتحقق إلا عبر المشاركة الفعالة للناس وليس انسحابهم منذ البداية أمام الدولة، بحجة أنه ليس بمقدورها إلا أن تكون وحشاً.
 

* كاتب سوري
موريس عايق موريس عايق