يمكن القول باطمئنان نسبي أن مفهوم الشخصية الإنسانية، وفي قلبه ذلك الحس الفائق بالذات الفردية، قد نما في مسار يتوازى وحركة ارتقاء التاريخ البشري، حتى وصل إلى نقطة ذروة تكرست فيها الحداثة الاجتماعية، واكتسبت الحرية معناها الوجودي، كنشاط إرادي للروح الإنساني، يمدنا بالقدرة على أن نقول ما نعتقده، وأن نفعل ما نقوله... أن نتمتع بثمار أفعالنا ونتحمل كلفة أخطائنا... أن نريد ونختار، وأن نتحمل في الوقت ذاته مسؤولية اختياراتنا.
غير أن تلك الأعجوبة المسماة بـ «الشخصية» أو «الفردية» أو «الحرية» لم تصل إلى أراضينا بعد، حيث لا يزال الفرد يُعرف بقبيلته، ويصطف خلف شيخها من دون هوية واضحة تميزه أو قدرة على اتخاذ مواقف تخصه. وحيث لا يزال الشخص يحاسب على أفعال طائفته، ويصطف خلف زعيمها، لا يجرؤ على التصرف خارج إطار محرماتها. وحيث لا يزال الزعيم الوطني تعبيراً جمعياً عن روح الأمة، بعد الربيع الكسير كما قبله، من دون اعتبار لمكونات الأمة أو لتعدد تفاصيلها أو حتى لملامح رجالها ونسائها... حيث ذلك كله أو بعضه لا يزال قائماً، فإن الإنسان العربي لم يولد بعد، ربما انبثق من رحم الأم كطفل وليد وجسد نامٍ، لكنه لم ينبثق بعد من رحم الحرية، كشخص فاعل، يملك في التاريخ ولو أثر الفراشة.
ففي مصر، البلد العريق، الذي يتغنى أهله بآلاف السنين من مدنية مفترضة، ظل الإنسان محض شيء قابل للاستخدام والاستهلاك مثل عبوة بلاستيك لمادة غذائية أو مشروب غازي، بقيت كل السلطات قادرة على أن تعذبه، أن تسوقه إلى الموت بلا ذنب ارتكبه أو جرم اقترفه، فقط لكونه يحرص على كرامته، من دون أن يهتز لها جفن، فيما يرتع على أرضها المحتكرون للسلع، والمتلاعبون بالأسعار، وأبواقهم الناعقة التي تنطق بالفجور وتدافع عن الباطل، وغيرهم ممن يستحقون عقاب القانون، لولا أنهم لفرط جبنهم قرروا أن يحابوا الجلادين بدلاً من الاحتجاج عليهم، أن يكونوا عملاءهم وزبائن لهم، على حساب مواطنيهم وإنسانيتهم.
كان خالد سعيد قُتل قبل ستة أعوام فاستحال أيقونة مجدتها عاصفة 25 يناير، التي أنهت حكم مبارك المتكلس. لكن الآتي جاء أكثر دموية مما كان قبل يناير، حيث قتل العشرات على منوال خالد سعيد، بأيدي هؤلاء الذين يشبهون قاتليه، بأظفارهم الناشبة وقلوبهم المتحجرة، حتى باتت الأسئلة المرة ضرورة ملحة: لماذا ثرنا؟ وما الذي حصدنا؟ وإلى أين نسير؟ لا إجابة يسيرة هنا، لكن المؤكد أن الثورات التي لا تحكم غالباً ما تجدد دورة الاستبداد، ليولد القهر من جديد فظاً وعنيفاً بالقياس إلى ما كان، على نحو يبدو معه الإنسان، بعد الربيع العاصف كما قبله، مثل سيزيف البائس، عاجزاً أبدياً عن مقاربة صخرة الحرية. وهو الأمر الذي فضحته بقسوة تلك الكلمات الوادعة والمتألمة التي نطقت بها الأم المكلومة للمواطن المصري مجدي مكين، سائق العربة البدائية الذي توفي تحت التعذيب على الأيدي الآثمة لضابط شرطة وبعض معاونيه من الأمناء داخل قسم الوايلي قبل شهرين، بعد القبض عليه بساعات قلائل، على نحو يعكس استخفافاً ساحقاً بحياة مواطن مسالم، لقي حتفه على أيدي من يُفترض بهم احترام القانون وتطبيقه والسهر على رعايته. قالت الأم الجريحة: «ها نعمل إيه، هانموت الحكومة يعني؟ ما نقدرش... إحنا ناس غلابة، حقنا عند ربنا»، كاشفة عن استسلام ميتافيزيقي يائس إزاء أية قيمة أخلاقية أو إنسانية معتبرة كالحرية أو المواطنة. أما الأم المكلومة، على الجانب الآخر من الشاطئ، والدة الطالب الإيطالي ريجيني، المقتول قبل عام بفعل التعذيب أيضاً، فأطلقت عبارتها الكاشفة والمؤرقة: «عذبوه وقتلوه كأنه مصري»، كأن المصرية باتت معادلاً للدونية، ما يشي بحجم المأزق الأخلاقي الذي نعيشه.
المفارقة أن حادثة قتل مجدي مكين الذي دين مرتكبوه رسمياً قبل أيام وتم احتجازهم بعد طول إنكارهم، بل محاولة التلاعب بأوراق القضية خصوصاً في ما يتعلق بتقرير الطب الشرعي، حصلت في اليوم ذاته الذي حُكم فيه بالمؤبد على أمين شرطة كان قد أنهى حياة مواطن آخر يبتاع الشاي والسجائر في أحد شوارع مدينة الرحاب، قبل أشهر عدة، لخلاف حول مقابل ما اشتراه منه. وهو أمر تكرر على المنوال ذاته في عشرات الوقائع طوال العامين الماضيين في القاهرة الكبرى، وفي الكثير من محافظات مصر، ما يكشف عن نمط متكرر، يتناقض مع تبرير الشرطة بأنها مجرد أحداث فردية. فعندما يتكرر الحدث الواحد، بالملابسات ذاتها تقريباً، عشرات المرات، فلا يمكن إلا أن يكون تعبيراً عن تصور جديد تنظر السلطة من خلاله إلى مجتمعها، تصور يكاد يقترب من عقد اجتماعي شاذ جوهره القهر السلطاني والجباية المملوكية، من دون اعتبار ليس فقط للحرية كقيمة ومثال، بل أيضاً للسياسة كفعل وممارسة لها حدودها وممكناتها وسياقاتها.
* كاتب مصري |