التاريخ: كانون الأول ٣١, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
الحلف غير المقدّس بين إرهاب إسلاميين والإسلاموفوبيا - موريس عايق
تظهر العمليات الإرهابية لـ«الدولة الإسلامية» تحولاً لافتاً قياساً بالشكل المعتمد سابقاً من «القاعدة». لم يعد تنظيم «الدولة الإسلامية» يستهدف مراكز مهمة فعلياً أو رمزياً للنظام العالمي، كالقواعد العسكرية أو السفارات أو حتى أبراج التجارة. هو يستهدف، عشوائياً، أناساً عاديين في أماكن عامة: الشارع أو السوق أو حتى الملاهي الليلية والمسارح. سابقاً، انتقت الحركات الإرهابية أهدافها اعتماداً على القيمة السياسية للهدف، والتي يمكن تحديدها وفق الأيديولوجية التي تتبناها الحركة، وعليه فقائمة الأهداف كانت قابلة للتوقع، ما جعل حماية الأهداف وتأمينها ممكنين. لكن عندما تصبح الشوارع والأسواق العامة والملاهي أهدافاً، فأية استراتيجية حماية ستبدو نافلة وعديمة القيمة. ويزداد الوضع سوءاً عندما تكون الأسلحة المستخدمة أشياء عادية تماماً، كسيارة شحن، كما حصل في نيس وبرلين، عوضاً عن أسلحة فعلية اعتادت الحركات الإرهابية على استخدامها.

تحوُّل آخر طرأ على صورة من يتولى تنفيذ هذه العمليات. فهو لم يعد المقاتل المتمرس صاحب التأهيل والالتزام الدينيين العاليين، أي لم يعد مقاتلاً أيديولوجياً. إرهابيو «الدولة الإسلامية» يقدمون صورة مختلفة، هم حديثو التدين ولديهم عموماً تاريخ سيئ وحتى إجرامي، لجهة المخدرات والقمار والعديد من المشاكل الأخرى، قبل تدينهم المستجد. كما أن الفترات التي تفصل بين تدينهم وتطرفهم، ولاحقاً القيام بعملياتهم، قصيرة وتكاد تكون معدومة أحياناً. الصورة الجديدة لإرهابيي «الدولة»، أو الذين ينضوون تحت رايته، جعلت استراتيجيات التعقب والملاحقة محدودة الفائدة. فهم ليسوا أصحاب تاريخ طويل في ممارسة عقائدهم، ولا سبق لهم تلقّي تدريبات طويلة وإعداد عقائدي عالٍ. استراتيجية «الدولة» في انتقاء مقاتليه ألغت وفي شكل كبير المسافات الفاصلة، التي كانت موجودة سابقاً، بين الجهادي والمسلم المتدين، والسلفيين منهم والمسلم العادي.

في السابق، كان هدف الحركات الإرهابية، وضمناً «القاعدة»، ضرب العدو وتحييد من يُفترض أنهم جمهور الحركة. وقد مكّن هذا من رسم خط فاصل بين العقائديين، الذين يشكلون مقاتلي الحركة، وجمهورها الافتراضي. كما مكّن من رسم خط فاصل آخر بين الأعداء الذين تجب محاربتهم وتُنفذ العمليات ضدهم، ومن يفترض تحييدهم حتى لو لم يكونوا من جمهور الحركة، أو حتى ضمن خانة الأعداء، من دون أن يستتبع هذا تحوّلهم إلى أهداف. النزاع كان حرباً بين جماعة من المسلمين المقتنعين بعقيدة محددة، القاعدة مثلاً، ونظام دولي محدد، لكنها ليست حرباً بين المسلمين وغيرهم.

بسبب هذين التحوّلين في استراتيجية «الدولة»، تحولت الحرب، وفي العمق، لتكون حرباً مطلقة. فهي انتقلت من حرب تخوضها جماعة ذات أيديولوجية محددة (السلفية الجهادية) ضد نظام هيمنة، إلى حرب بين كل المسلمين والآخرين. لم تعد الأهداف تُحدد بمعيار سوى كونها موجودة في دار الكفر، ومن تستهدفهم كفار، على رغم أن الضحايا قد يكونون مسلمين. كذلك ومع الامّحاء المتزايد بين صورة الجهادي العقائدي والمسلم العادي، سيُصبح كل مسلم مشروع إرهابي.

يبدو أن هذه الحالة من الحرب المطلقة هدف الاستراتيجية التي ينتهجها تنظيم «الدولة». فبفضلها تتحول كل أرض أرضَ توحش للمسلمين، فيصبحون مستهدفين لا لشيء إلا لأنهم مسلمون. عندها لا يبقى لهم من ملاذ إلا «الدولة» ليحميهم ويدافع عنهم. وهو سيقول لهم: ألا ترون أن الجميع أعداؤكم ويرغبون في قتلكم لأنكم مسلمون؟

في المقابل، تلاقي الإسلاموفوبيا جهود «الدولة» على الضفة الأخرى، والتلاقي يكمن في الاتفاق على صورة متماثلة للإسلام: «إسلام متوحش يخوض حرباً دائمة مع أوروبا». تتفق الإسلاموفوبيا مع أبو بكر البغدادي على شيء أساسي، هو أن البغدادي الممثل الحقيقي للإسلام. فهي تروج لفكرة أن كل ما نراه من عمليات إرهابية وقتل ومذابح نتاج ضروري للإسلام وتعبير عن حقيقته، وأن كل مسلم مشروع إرهابي لن يطول به الوقت ليكشف عن حقيقته، وها هو ترامب يصرح مباشرة بعد عملية برلين بأنه كان على حق في مطالبته بتقييد سفر المسلمين إلى أميركا. لم يعد مفيداً الاختفاء خلف إصبعنا والتصريح بأن هذا لا يمثل الإسلام. بالتأكيد لا يمثل المسلمين، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن حركة «بيغيدا» الألمانية المعادية للمسلمين لا تجد جمهورها في المدن الكوزموبوليتية حيث التعدد الثقافي والحضور الكثيف للمسلمين، بل في المدن الأصغر وذات الحضور الإسلامي المتواضع. العديد من أنصارها لم يتعرفوا في شكل شخصي إلى مسلمين، بينما سكان المدن الكبرى عموماً، والذين لهم صلات شخصية بمسلمين، فيدركون بحكم المعرفة التنوع الهائل بينهم، مثلهم مثل كل البشر، ما يجعلهم أقل تأثراً بدعاية «بيغيدا».

لكن الإصرار على أن هذا لا يمثل الإسلام لا يفيد فيما لا ينجح المسلمون في تقديم نماذج إيجابية ومضيئة في مواجهة الحركات السلفية الجهادية. فكيف نتحدث عن نموذج إيجابي مع التخلف والجهل والتدهور الكبير في حقوق الإنسان واستباحة كرامته في بلادنا؟ والأسوأ هو الضعف الأخلاقي وانعدام الأمانة مما يتجلى في مخاطبتنا الآخرين. ندافع عن حقوق المسلمين في الدول الأوروبية، وهي أفضل بما لا يقاس من حقوقهم في بلدانهم الأصلية، ونحتج على انتهاكها، من دون أن نأبه للحقوق نفسها وانتهاكها المضاعف للمسلمين وغيرهم في بلادنا. لا يمكن أن نحتج باسم حقوق الإنسان ونرفضها في الوقت ذاته، أو أن نكذب صراحة ونستخدم لغتين في مخاطبة العالم، وهناك مثال مفيد من الثورة السورية هو زهران علوش، قائد «جيش الإسلام» قبل مقتله. ففي خطبة له، صرح أن الديموقراطية كفر، وأنه يكفر بها جملة وتفصيلاً ولا حل إلا بالإسلام السني، وأن بقية الأديان بل المذاهب الإسلامية باطلة. لكنه لاحقاً وفي مقابلة بالإنكليزية مع جريدة أميركية (ديلي بيست)، تحدث في شكل مختلف تماماً، مصرحاً أنه لم يقصد الديموقراطية بذاتها، وأنه مع حكم تكنوقراط يمثل كل الشعب السوري بتنوعاته. فكيف للعالم أن يصدقنا؟

في مواجهة هذا التحالف غير المعلن بين «الدولة» والإسلاموفوبيا، ومع غياب النموذج الإسلامي المضاد والمتنور، تبقى دولة القانون «الغربية» الحصن الأخير في مواجهة الكارثة بتأكيدها المسؤولية الفردية وحقوق الإنسان والتقيد بالقانون العادل، وللمسلمين قبل غيرهم. لكن إلى متى تبقى قادرة على الصمود في مواجهة هذا الجنون كله؟


* كاتب سوري