التاريخ: كانون الأول ١٥, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
تماثل الفاشيات وتنافرها: تعدّدت الأساليب والوطأة واحدة - ماجد الشّيخ
في هذا الزمن الموصوف بالتطرف الإرهابي المعولم، وفي غياب الأدوات الناظمة والفاعلة على المستوى الدولي، واضطراب أو انسحاب بعض القوى الدولية (الولايات المتحدة وأوروبا) وإن جزئياً أو نسبياً، ودخول آخرين (روسيا) عالم القوة، وفي ظل فوضى المعارضات والثورات المضادة، بات العديد من المجتمعات والدول والشعوب ترزح تحت تهديد أخطار كثيرة، مباشرة وغير مباشرة، في انتظار مزيد من أعمال العنف والتطرف والإرهاب، وكأنه لم يعد في الدنيا وفي عالم البشر من قضية، سوى تلك التي يعتقد البعض بأنها من «أولويات واجباته الدينية»، أو من واجبات «سلطته المقدسة»، وذلك من قبيل «النيابة عن الله» في توجيه «أحكام التكفير»، واحتكار السلطة كسلطة عائلية استئثارية واستملاكية أمنية وبوليسية مطلقة، تحميها الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، وعلى أساسها تخاض اليوم مَقاتل وصراعات وجرائم القتل والتعذيب والحرق والتمثيل بأجساد البشر، وحتى سبي النساء واغتصابهن، وتشويه براءة الأطفال ونقلهم قسراً إلى عالم الإجرام، وتدمير الممتلكات وهدم البيوت، ودغدغة مشاعر المأزومين باستيهامات لا علاقة لها بأي مستوى من مستويات الإيمان، وغيرها العديد من الأباطيل التي لا يروجها عاقل، في ظل تغييب استعمال العقل، والحط من شأن العقلانية، في عالم لا يراد أن يحكمه ويتحكم به غير فاقدي الأهلية من المعادين للعقل والسوية الإنسانية والأخلاقية والقانونية.

ولئن ذهبت فكرة قضايا الشعوب وحرياتها وتحررها نحو التبديد، حلت محلها أساليب ملتوية تجيدها تلك الذئاب المنفلتة من كل عقال ليأخذ تطرفها وإرهابها دور «الطليعة المجرمة»، و«القدوة غير الحسنة» في اختلاق الكثير من المسلكيات الذئبية المريضة، وهي تسعى إلى عملية إحلال لما تريد من شكل عالم منفر وهجين، لا يتطابق ومعايير الإنسانية المعاصرة والحديثة.

صراع قاتل على الهوية

نشهد اليوم صراع ثقافات أو حضارات، وصعود التيارات اليمينية الشعبوية والفاشية في أوروبا ضد المهاجرين، وفوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة وما جاهر به ضد المقيمين المختلفين إثنياً ودينياً كنوع من ردود فعل حادة على ما يجري عندنا من مسلكيات وحشية تتذرع بالتاريخ الاستعماري لأوروبا، بالتزامن مع صعود تيارات اليمين الديني الفاشي... كل هذا ينذر بصراع دامٍ وقاتل على الهوية، يتمظهر على شكل هويات افتراضية متخيلة لا قعر لها ولا قيعان مشتركة في مجتمع الإنسان.

كذلك في إسرائيل، التي تماثلنا أو يتماثل البعض منا معها في ابتداع نمط من الفاشية الدينية، كالداعشية ومثيلاتها، وتحت عنوان «دينية فاشية» كتب ب .ميخائيل في صحيفة «هآرتس» أخيراً حول إعلان وزير التربية والتعليم الإسرائيلي أنه يفضل تعليم اليهودية (أي التوراة وما يوازيها من الكتب التلمودية) على تعليم العلوم، وذلك من أجل ما سماه «العودة إلى القوة العظمى الروحانية وتصدير المعارك الروحية للعالم»… وكي «نعود ونكون نوراً للأغيار».

وكما أنماط الفاشية هناك، كذلك أنماط الفاشية هنا، كلها وإذ أجادت وتجيد ابتداع أساليب القهر وإستراتيجيات القتل والتغيير والإحلال الديموغرافي على الهوية، فهي تفتقد أي ملكة من ملكات الثقافة والإبداع، وأي عنوان حضاري. لذلك تدور أنماط الصراعات القائمة باسم الثقافة أو باسم الحضارة/الحضارات على الهوامش، وعلى أيدي فئات ونخب هامشية في المجتمعات المعنية شرقاً وغرباً، فتقوم مواقف «الغالبية الصامتة» في الغرب على القبول بسياسات الاندماج، ورفض ممارسات الفاشيين، والانحياز إلى سياسات التسامح والتعايش واحترام معتقدات الآخر، والعمل على وصل ما انقطع أو ما يمكن أن ينقطع بين أصحاب الهويات المختلفة المتنوعة والمتعددة، في إطار من التفهم والتفاهم، على عكس ما يهدف المتطرفون والفاشيون والإرهابيون، عندنا وعندهم، من قطع وقطيعة، وتفتيت مجتمعات، وتفكيك شبكة العلاقات الإنسانية بين أوطان ومجتمعات وشعوب.

وطأة الإخضاع والاستتباع

صار العالم يعيش تحت وطأة الإخضاع والاستتباع لنوع جديد من الهيمنة المتجددة، وهي تتلبس لبوساً فاشياً وإن بطرائق مختلفة، في ظل النظرات المتقاربة للولايات المتحدة في عهدها الترامبي (الجمهوري) الجديد، وللنظام الروسي وهو يجرب عنف قوته المستعادة العمياء، وما قد تأتي به نتائج الانتخابات في بعض الدول الأوروبية، فيما بات يسمح لنظام الملالي في إيران وتابعيه من الميليشيات الطائفية، الموظفة في خدمة المشروع الإمبراطوري الفارسي، المساهمة في ترتيب أوضاع الجغرافيا والديموغرافيا السورية بما يساهم في الحفاظ على النظام الأسدي، والاستمرار في وراثة الاحتلال الأميركي للعراق بإبقاء النظام الطائفي.

كل هذا يقدم مساهمة عز نظيرها للأمن الإسرائيلي، فيما هو من ناحية أخرى يستكمل تجريد الأمن القومي العربي من كل عناصر قوته التي جرى تبديدها على أيدي فاشيي التنظيمات الأيديولوجية والأنظمة الفاشية، وهي تحلم بالبقاء في السلطة إلى الأبد، حتى وهي تخسر قسماً مهماً من أقسام وطن بالوراثة لتحكمه بالحديد والنار، وبالأجهزة الأمنية البوليسية التي لم تعرف لها مهنة سوى الحفاظ على سلطة الحاكم المستبد.

ما يتكشف اليوم من أنماط الفاشية في بلادنا، أننا كبشر أفراداً وجماعات ومجتمعات ودول، عالقون بين نارين: نار الفاشية الدينية التي كونت الثورة المضادة بكل تركيباتها وأطيافها الطائفية والمذهبية، وهي كلها ماضوية معادية للتقدم والتغيير، وللحداثة والمعاصرة. وفي المقابل هناك نار الأنظمة الفاشية وهي تصعد جبل السلطة ولا تريد أن تتزحزح عنه، حتى وإن ذهب الوطن وجرى اقتسامه، أو دمرت المواجهات المسلحة وغير المسلحة إرث تاريخ الأجداد وشواهدهم الباقية على مر عشرات القرون، والهويات التي تعاقبت على هذه البلاد، كما يحصل لحاضرة حلب وقلعتها التاريخية، وكما حصل ويحصل لمملكة تدمر وآثارها التاريخية. المهم أن يبقى النظام والسلطة، وإن على حساب التاريخ وشواهده الآثارية بما حوته من دلائل شهدت وتشهد على التنوع والتعدد الحضاري، ما سوف يبقى مخرزاً يفقأ كل العيون الضيقة التي لا ترى سوى ذاتها في المرآة، وأمثالها ممن يعدون حسبــاً ونسباً على الهندسة السكانية نفسها وسوسيولوجياها الأكثر ضيقاً وتمذهباً فاشياً مما لا يمكن توصيفه إلا كونه كذلك: فاشية الاختيار لا فاشية الاضطرار.

فإلى متى يستمر عالمنا في العيش عند حدود التردي والخراب والتعثر والاضطراب؟ وكم من الأعوام سيبقى الوضع كذلك في وقت ينبغي الالتفات إلى قضية الانسان كونه الضحية الأولى الأقدس إلى جانب العمران والتاريخ والثقافة والحضارة، وهي كلها صنائع الإنسان المتحرر من قيود ومكبلات سلطة الأنا الفاشية والإرهاب وسياسات التوحش الهمجية من جهة، والتطهير الطائفية والعرقية من جهة أخرى، ومن أسف أن ما يسود الآن هي تلك التي سبق للإنسان أن تحرر منها ناقلاً خطوه خطوات إلى الأمام (الحضارة والتحضر)، ولكنه يصطدم اليوم بما يعيده خطوات إلى الخلف (الماضي النكوصي)، وبما يضاد كل حداثة، وبما يعاكس كل حضارة وتحضر، شهدته البشرية على امتداد تاريخها، وهي توشك اليوم أن تفقده بقوة دفع الفاشيات الشعبوية التي تشهد ازدهاراً قل نظيره وهي تتماثل شرقاً وغرباً، في حين لا يكاد الإنسان يجد في تنافرها ما يعينه على استعادة روح انطلاق الحرية والتحرر الديموقراطي والليبرالي كما بدا أول مرة. 

* كاتب فلسطيني