التاريخ: كانون الأول ١٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
العلاقات المصرية - السودانية وتحديات المستقبل
أماني الطويل 
ربما لم تحز علاقات عربية بهذا المقدار من الجدل كما حازت العلاقات المصرية - السودانية، وهي حالة لم يتسبب فيها فقط الخلاف حول مسألة حلايب وشلاتين، أو مجريات سد النهضة الراهنة التي تعد تحدياً استراتيجياً للبلدين، ولكن، بالأساس، هذا الجدل والتذبذب في العلاقات صعوداً وهبوطاً هو نتاج عملية معقدة من مشكلات الإدراك المتبادل، ساهمت في تعقيد مواقف سياسية وتعويق إمكانات توافق وتعاون واتخاذ قرارات خاطئة في توقيتات حرجة.

ساهم في هذا الإدراك السلبي لكل طرف إزاء الآخر إرث تاريخي متشابك، لعبت فيه دولة محمد علي باشا دوراً، خصوصاً في ضوء توسعاتها جنوباً سعياً وراء نهر النيل، كما لعب الاستعمار البريطاني أدواراً ممنهجة ومؤذية، لضرب قدرة شعبي وادي النيل ودولتيه على التلاقي.

ولا ينفي ذلك مسؤولية النخب المصرية والسودانية عن استمرار مشكلات الإدراك من كل طرف تجاه الآخر، حيث لم يدرك المصريون لفترات تاريخية طويلة نسبياً حالة التنوع في السودان على المستويات الإثنية والثقافية، ومن ثم الانعكاسات السياسية لهذا التنوع، فانزلقوا في قرارت تدعم المكون العربي في الهوية السودانية فقط على حساب باقي المكونات، فجاء إدراكهم وتفاعلهم مع أزمة جنوب السودان مثلاً إما متأخراً حيناً، أو خاطئاً أحياناً أخرى. وفي المقابل لم يستطع السودانيون إدراك قدسية مؤسسة الدولة عند المصريين وحالة المركزية المصرية وطبيعة المزاج الشعبي المؤيد هذه المركزية اعتقاداً أنها أحد معطيات الحفاظ على وحدة التراب الوطني ربما، أو جهلاً نسبياً بطبيعة اللامركزية. فارتكب السودانيون خطيئة إلغاء التكامل المصري - السوداني باعتباره منتمياً إلى نظام جعفر نميري وليس اتفاقاً تعاقدياً بين دولتين، فخسر الطرفان فرصة تاريخية كانت مواتية لتأسيس تعاون اقتصادي وتنموي، كان بالضرورة يحمل انعكاسات إيجابية لمصلحة الشعبين.

وإذا كانت العلاقات الثنائية قد حافظت في سياقها الرسمي على عدم استقرارها طبقاً لتقلبات نظم الحكم، ومتغيرات النظام العالمي أيضاً، فإن المكون العاطفي في هذه العلاقات حافظ على دفئه وحيويته على المستوى الشعبي، بفعل الوجدان المشترك الذي يلعب نهر النيل فيه دوراً مرتبطاً بسريانه البطيء كثيراً والهادر أحياناً فيخلق الوشائج التي عبرت عن ذاتها في النزوح السوداني إلى مصر مع كل أزمة سياسية سودانية، وأيضاً عمليات التزاوج والاختلاط العائلي، وأيضاً قضاء الحوائج السودانية من صحة وتعليم وغيرهما.

وواجهت العلاقات المصرية - السودانية أزمات حادة في تاريخها منذ منتصف خمسينات القرن العشرين، فاستقلال السودان عبر قرار برلماني وليس باستفتاء شعبي كما كان متفقاً عليه في اتفاقية تقرير مصير السودان عام ١٩٥٣، كان بمثابة خنجر في صدر جمال عبدالناصر، لوحدة كان يريدها طوعية بين البلدين، وذلك عكس الاعتقاد التاريخي أن الرجل قد ضحى بالسودان.

ونستطيع القول أن السودان فقد جزءاً كبيراً من صورته الإيجابية لدى عموم المصريين، مع الجدل السوداني المصاحب مصادرةَ المدارس المصرية وجامعة القاهرة في مطلع التسعينات، على رغم دورهما التعليمي والتنويري التاريخي في السودان، كما كانت محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس بابا عام ١٩٩٥ خنجراً آخر في صدر البلدين المستقلين، وكانت لها انعكاسات خطيرة تسببت في إندلاع أزمات متوالية، وحالة من الهواجس المستمرة بين البلدين لم تهدأ طوال فترة حكم مبارك، إذ كان النظام السوداني يتحسب من فكرة ممارسة ثأر مصري منه، وقد اكتسبت هذه الهواجس السلبية زخماً لدى أجهزة الدولة في الدولتين، وزادت على المستوى المصري مع طبيعة التفاعل الإيجابي السوداني مع فترة حكم «الإخوان»، بل إني أزعم بطبيعة مراقبة التجربة السودانية تاريخياً أن «إخوان» مصر قد نفذوا النموذج السوداني في خطواته نحو التمكين، وذلك حين فارقوا منهجهم المعروف في مصر ألا يتصدروا للرئاسيات، وتتبعوا المنهج السوداني في التمكين لفريقهم في أجهزة الدولة.

ومع تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي سدة الحكم لم يُتخذ قرار مصري بمعاقبة السودان على دوره في دعم «إخوان» مصر، وفي محاولة إسناد «إخوان» ليبيا. القراءة المصرية انحازت إلى فكرة احتواء الموقف السوداني، مع احترام مرجعيات النظام السياسي السوداني المنتمية إلى الإسلام السياسي تاريخياً، وإدراك طبيعة انقساماته التاريخية وخسائره السياسية بعد أكثر من ربع قرن في الحكم، لم يستطع خلالها أن يقدم للدولة أسباب القوة ولا للشعب السوداني ظروف الرفاه.

الموقف المصري من السودان دشن في لقاء تاريخي بين الرئيسين البشير والسيسي في القاهرة في خريف عام ٢٠١٣، وكانت معطياته ثلاثة هي، أولاً: أن ثورة ٣٠ حزيران (يونيو) ضد «إخوان» مصر قد ضربت المخطط السوداني لتدشين مثلث إسلامي بين كل من السودان وليبيا ومصر، وغيرت هذه الثورة من خريطة الأوزان والتحالفات الإقليمية.

أما المعطى الثاني في الموقف المصري فهو أن الفوضى الأمنية في ليبيا لها انعكاسات سلبية على متطلبات الأمن القومي لكلا البلدين بمقادير متفاوتة، وأن للتهديدات الأمنية امتدادات في دول وسط أفريقيا وغربها، وهو أمر يتطلب تحالفات إقليمية وترتيبات ربما تتجاوز مصر والسودان معاً. أما المعطى الثالث في القرار المصري فهو طبيعة الأزمة الداخلية السودانية وحالة عدم الاستقرار السياسي التي يمكن أن تسفر عن انفلات غير محسوب قد يقوض السلطة السودانية والدولة معاً وينتج منه جوار مهدد لمصر وتدفق لاجئين بأعداد لا يمكن الوفاء باحتياجاتها.

وإذا كانت مصر بهذه الخطوة قد حققت تحجيماً للنفوذ الإيراني في السودان، وإعادة التموضع الإقليمي للسودان عام ٢٠١٥ ليفارق ثنائي قطر إيران، فإنها لم تستطع تطويق الموقف السوداني من إثيوبيا، وذلك بطبيعة الاحتياجات الاقتصادية للنظام السوداني، والناتجة من فقدان الموارد النفطية مع فصل الجنوب عام ٢٠١١، من جهة، والاحتقان الناتج من احتكار السلطة لمصلحة الحزب الحاكم من جهة ثانية، وتردي مستويات الخدمة المدنية إلى مستوى خطير من جهة ثالثة، خصوصاً بعد إزاحة رموز الإنقاذ التاريخيين عن دائرة الفعل السياسي والاعتماد على الصف الثاني من الإسلاميين في إدارة الحكومة كمحاولة لعلاج الاحتقان السياسي كان آخر مدني ناجح للشعب السوداني ينذر بما هو أخطر في المستقبل القريب.

البيئة القلقة حالياً التي تعيش في محيطها العلاقات الثنائية بين مصر والسودان على مستوى التهديدات الأمنية في ليبيا ومن ورائها إقليم الساحل والصحراء، والتحول الاستراتيجي المرتبط بتحكم إثيوبيا في مياه النيل، ثم إمكانية تسليع مورد المياه وبيعه، وأخيراً المهددات الوجودية أمام دولة السودان والعابرة لسلامة نظامه السياسي أو استمرار كل هذه العوامل إجمالاً، ساهمت في قفزة لعلاقات البلدين على المستوى الرسمي تمثلت في خطوتين:

الأولى، توقيع اتفاق شراكة استراتيجي مصري - سوداني ما زال يحتاج إلى تدشين آلياته ليحقق نجاحاته ربما.

الثانية، حضور الرئيس عبدالفتاح السيسي ختام الحوار الوطني السوداني في الخرطوم وذلك مع خطاب معلن من جانب الرئيس المصري أن مشكلات الاستقرار السياسي السوداني لا بد من مواجهتها بتغيير دستوري وحريات عامة وانضمام الممتنعين من السودانيين إلى الحوار الوطني تمهيداً لمجابهة تحديات الوجود السوداني.

وربما تكون هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها رئيس مصري في الشأن السياسي الداخلي السوداني على هذا النحو المعلن، وهو يعلم على وجه اليقين أن هناك تيارات سياسية سودانية ضد التقارب المصري - السوداني الراهن على الصعيد الرسمي وتعتقد أنه يحدّ من فرصها في المعادلة السياسية السودانية. ربما من هنا نستطيع أن نفهم انسحاب أحد أقطاب «الإخوان المسلمين» من القاعة أثناء إلقاء الرئيس السيسي كلمته، ونتوقع ربما انخراطاً مصرياً في عملية مصالحة وطنية سودانية، ذلك أن الحوار الوطني السوداني يراوح مكانه، والشارع ينفذ عصياناً مدنياً، ولم ينتظر الستين يوماً المطلوبة قانونياً لتنفيذ وعود الرئيس البشير في اتخاذ ثلاث خطوات عبر البرلمان لإقرار لجنة قومية لتعديل الدستور تمهيداً لتكوين حكومة وفاق وطني، وذلك بعد أن تم استهلاك صدقية النظام السياسي السوداني عبر السنين.

التوزانات حرجة بين مصر والسودان والتحديات كبرى والمهمات صعبة، والسيناريوات تبدو مرتبكة بين إرادة مصرية تتطلع إلى استقرار سياسي سوداني يمكنه من الانطلاق لمواجهة مشتركة مع مصر إزاء التحديات الإقليمية والتحولات الاستراتيجية، وبين إرادة سودانية تحتاج أكثر ما تحتاج إلى المصالحة الوطنية لكنها مترددة وقلقة وعنيفة مع شعبها، بما يجعل القدرة على إنقاذ الوجود السوداني أبطأ من مجريات الأحداث.

* كاتبة مصرية