التاريخ: تشرين الثاني ٣, ٢٠١٦
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
بين تسوية الحرب اللبنانية ومشروع تسوية الحرب السورية - راي تقية
تتواصل الحرب السورية فصولاً. تشتعل مدينة حلب. أما السياسيون والمعلّقون فيعرضون خططاً لإدارة الحرب. ويتنوّع ما هو معروض بين إنشاء مناطق آمنة ومناطق إنسانية، وخطط لإعادة توطين اللاجئين، ومخططات ديبلوماسية.

المشكلة في هذه الخطط هي أنها لن تضع حداً فعلياً للحرب. فالسبيل الوحيد إلى ذلك هو أن تعمد الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون إلى وضع خطة تقسيمية، ثم نشر أعداد هائلة من القوات لتنفيذها. ولهذا يفضّل السياسيون والخبراء الاستراتيجيون التلطّي خلف مخططات لن تؤدّي إلى إنهاء الأعمال الحربية.

المقاربة التي يعتمدها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في التعامل مع الملف السوري تذكّر إلى حد كبير بمحاولات إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في منتصف السبعينيات. كان لبنان دولة منقسمة مذهبياً، كما هو الحال في سوريا، يحكمه ائتلاف من المسيحيين والسنّة والشيعة. وقد انهار هذا التوازن المذهبي الهش، فغرقت البلاد في أتون الحرب الأهلية. حاولت القوى الإقليمية تأدية دور الوسيط، وجرى التوصل إلى اتفاقات في مراحل معيّنة، لكن مصيرها كلها كان الفشل.

وضعت الحرب أوزارها عام 1990 عندما أصبح القتال غير قابل للاستدامة نتيجة تضافر عدد من العوامل. فعلى الصعيد العالمي، دفعت نهاية الحرب الباردة بروسيا إلى السعي إلى تحسين روابطها مع الغرب، وإبداء ميل أكبر إلى تأدية دور بنّاء في الشرق الأوسط. وعلى المستوى الإقليمي، سعت إيران، في ظل آية الله البراغماتي علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إلى تحسين علاقاتها مع السعودية. وفي غضون ذلك، حصلت سوريا على تطمينات بأنه سيتم الحفاظ على نفوذها في لبنان بعد الحرب، وهكذا لم ترَ داعياً لاستمرار القتال.

بيد أنه كانت لا تزال هناك حاجة إلى فرض تطبيق الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين الأفرقاء الخارجيين، على الفصائل اللبنانية التي كانت تميل إلى مواصلة القتال. وقد تطلب الأمر دخول نحو 40000 جندي سوري من أجل فرض تنفيذ الاتفاق. ربما انتهت الحرب، لكنها خلّفت وراءها أمة مفكّكة لم تتعافَ تماماً من الصدمة.

تستند الاستراتيجيا التي تعتمدها الولايات المتحدة حالياً في التعامل مع المسألة السورية، إلى المفهوم الذي يعتبر أنه من شأن اتفاق يجري التوصل إليه بينها وبين روسيا أن يُستتبَع لاحقاً بتقارب بين الدولتَين العدوتين الأساسيتين في المنطقة، إيران والسعودية، ثم يُفرَض الاتفاق على الأفرقاء المحليين، تماماً كما حصل في لبنان. لكن هذا المنطق يتجاهل أن روسيا والولايات المتحدة على خلاف في مجموعة واسعة من المسائل، وليس فقط في الموضوع السوري. كما أن الإيرانيين والسعوديين يتواجهون في حرب باردة إقليمية، حيث سوريا هي مجرد واحدة من ساحات المعارك الكثيرة، في حين أن الأفرقاء المحليين منتشرون على نطاق واسع ومتطرفون جداً إلى درجة أنهم لا يستطيعون وضع خلافاتهم جانباً. الجميع في سوريا يلعبون بهدف الفوز.

الخطأ الأساسي في الديبلوماسية التي ينتهجها كيري هو اعتقاده بأنه يمكن إعادة بناء سوريا بدعم روسي أو إيراني. حتى لو جرى التوصل إلى اتفاق، غالب الظن أن القوى المحلية لن تكف عن القتال. فمن فقدوا أفراداً من عائلتهم بسبب البراميل المتفجرة التي ألقاها نظام الأسد، يصعب عليهم تقبُّل استمراره في حكم شريحة صغيرة من البلاد. وتنظيم "الدولة الإسلامية" الساعي إلى إعادة بناء خلافة ضائعة، سيظل موجوداً في شكل من الأشكال، في حين أن الأقلية العلوية التي تخشى الانقراض، لن تجد سبباً وجيهاً للتخلي عن القتال. لم يعد بالإمكان قيام دولة قوية ووحدوية كتلك التي حكمت سوريا لفترة طويلة جداً. أفضل ما يمكن التطلع إليه هو سلسلة من الكانتونات المجتزأة التي تتعايش بصعوبة في إطار تدبير فيديرالي ما يتطلب تطوره عقوداً عدة.

الخيار الحقيقي الوحيد المتاح أمام الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، مثل بريطانيا وفرنسا، هو وضع مجموعة من المبادئ لتقاسم السلطة ثم نشر قوة كبيرة لفرض الالتزام بهذه المبادئ. يجب أن يراعي مثل هذا المخطط التقسيمي الاختلافات الإثنية والدينية في سوريا، وأن يسعى إلى تقسيم البلاد وفقاً لهذه الخطوط، على أن يحصل العلويون بموجبه على مقاطعتهم الخاصة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المجموعات الإثنية الأخرى. وبإمكان السنّة الحصول على الحيّز الخاص بهم بعد تطهيرهم من تأثير "داعش" السام. الأمل هو أن تتمكّن هذه المجموعات من التعايش في ظل هيكلية فيديرالية ضعيفة، مع خروج جزء كبير من السلطة من قبضة الحكم المركزي ووضعه في عهدة الأطراف.

لا يمكن أن ينشأ مثل هذا النظام إلا في ظل احتلال خارجي مطوّل، مع استعادة الدول الغربية في شكل أساسي دور القوى الانتدابية الذي أدّته في مطلع القرن العشرين، ما يستدعي سقوط ضحايا على أيدي القوات الغربية وتكبّدها أيضاً ضحايا في صفوفها.

لهذا السبب لن تنتهي الحرب الأهلية السورية في القريب العاجل. يرى جميع الأفرقاء أسباباً تدفعهم إلى الاستمرار في القتال، في حين أن الولايات المتحدة التي تتمتع بالنفوذ الضروري لإنهاء الحرب، تبدي بصورة مفهومة تردداً في الإقدام على ذلك. فإخفاقها في تغيير المعادلة في العراق عن طريق اللجوء إلى القوة سوف يطاردها لعقود طويلة. في غضون ذلك، سيستمر الديبلوماسيون والمبعوثون في عقد الاجتماعات وطرح مخططاتهم. وسوف يقترح السياسيون إجراءات مجتزأة لا تملك أي حظوظ بالنجاح، فيما يتواصل الحريق السوري.

زميل في مجلس العلاقات الخارجية "الفايننشال تايمس"

ترجمة نسرين ناضر