أحزاب متطرفة يزداد وزنها في عدد متزايد من دول غرب أوروبا، وتملك رئيسة أحدها فرصةً كبيرةً للفوز في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. ومرشح يباهي بعنصريته ينافس في انتخابات الرئاسة الأميركية، بعدما انتزع ترشيح الحزب الجمهوري.
موجة «إسلاموفوبيا» أكثر حدةً من سابقتها التي أعقبت هجمات 2001 تضرب بعض قيم النموذج الغربي، ومواقف متشددة ضد مهاجرين بؤساء تهدد بعضاً آخر من هذه القيم.
أزمة عميقة تواجه الاتحاد الأوروبي أسفرت عن خروج بريطانيا، وتهدد إنجازاً اقترن بترسيخ مجموعة ثالثة من القيم ظلت مُجمدة إلى أن انتهت الحروب الأوروبية وامتداداتها العالمية.
وفي هذا كله وغيره مما يثير أسئلة عن مآلات أزمة الغرب الأوروبي والأميركي، يحضر الإرهاب ويُستخدم لتغطية هذه الأزمة، وتبرير سياسات فاشلة، وتخويف ناخبين سعياً للحصول على أصواتهم.
تستخدم حكومات أوروبية خطر الإرهاب لتبرير غلق حدود بلدانها أمام مهاجرين مهددة حياتهم، يبحثون عن مأوى خارج منطقة صارت قيمة الإنسان في كثير من بلدانها أرخص من ثمن طلقة تقتله. وهي إذ تتخذ الإرهاب ذريعةً للتنصل من مسؤولية ما هو أقل مما تفرضه اتفاقية جنيف للاجئين في 1951، إنما تُسقط مبدأً أساسياً في منظومة حقوق الإنسان التي تُمثّل إحدى ركائز النموذج الغربي. كما يحاول معظمها استخدام الإرهاب لتغطية ضعف متزايد في أدائها، نتيجة استمرار الجمود السياسي والاجتماعي.
وبسبب خطر الإرهاب أيضاً تتغاضى حكومات أوروبية، والإدارة الأميركية، عن توسع عدد متزايد من حكومات الشرق الأوسط في انتهاك حقوق الإنسان، حتى حين ينطوي الانتهاك على أشكال من إرهاب الدولة الذي رُفع من قاموس الخطابات الغربية الرسمية. وليس غريباً في هذا السياق التراجع عن مواقف تبنتها دول أوروبية والولايات المتحدة في شأن الأزمة السورية، وتجاهلها جرائم ضد الإنسانية لا سابقة لها في تاريخ الحروب الداخلية للعصر الحديث.
كما تنفخ أحزاب قومية متطرفة متعددة الاتجاهات، ليست كلها يمينية، في خطر الإرهاب للضغط على حكومات بلدانها لتذهب إلى أبعد مدى في التفلت من قيم أساسية للنموذج الغربي، وتحويل خوف الناخب إلى «فوبيا» أملاً بحصولها على صوته.
وهكذا يبدو للوهلة الأولى أن الإرهاب هو العامل الرئيسي وراء الأزمة التي تواجه أنظمة الحكم الغربية والنموذج الذي تقوم عليه، وكأن رياحاً «شرقية» ساخنة تهب على الغرب. فالساسة الغربيون يتحدثون عن الإرهاب في المرحلة الراهنة أكثر من أي شيء آخر، ومن أي وقت مضى.
غير أن أزمة الغرب سابقة على بلوغ الإرهاب مستواه الراهن، إذ تعود بداياتها إلى أكثر من عقدين على الأقل. فقد تراكمت منذ منتصف التسعينات اختلالات داخلية ساهم الإرهاب في تغذيتها، لكنه لم يصنعها.
وتعود هذه الاختلالات إلى جمود يصيب النظام الديموقراطي في بعض المراحل ويُضعف قدرته على معالجة الأزمات. وليست هذه هي المرة الأولى التي تُصاب فيها أنظمة ديموقراطية غربية بالجمود، لكن آثار الجمود راهناً ما زالت أقل فداحةً مما ترتب على مثله في النصف الأول من القرن العشرين، وأدى إلى صعود الفاشية والنازية، وأنتج حرباً مدمرة في 1939. غير أن استمرار الجمود الراهن، مصحوباً بتداعيات الإرهاب، يمكن أن يقود إلى كارثة عالمية أخرى.
ويحدث الجمود في النظام الديموقراطي عندما تضعف ديناميته، فيفقد أهم ما يميزه عن الأنظمة الاستبدادية: القدرة على تصحيح أخطائه.
ويقدم فرانسيس فوكوياما في كتابه الصادر في 2014 «النظام السياسي والأفول السياسي» تحليلاً مهماً للنظام الأميركي ينطبق على الدول الغربية عموماً. فالأمراض التي شخَّصها شائعة الآن في هذه الدول، كعجز الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية عن تجديد خطاباتها التي انحسرت الفروق بينها، فصارت متقاربةً ورتيبةً وخاليةً من الرؤى الملهمة التي تخلق حيويةً في المجتمع، وعاجزة عن ضخ دماء جديدة وتطوير آليات التجنيد والتصعيد في داخلها. ويؤدي ذلك إلى إعادة تدوير نخب محدودة في مستوياتها القيادية.
ولذلك تتراجع معدلات المشاركة في الانتخابات، وتؤدي إلى أزمة في التمثيل عبرت عنها حركات اجتماعية غاضبة في شعارات مثل «نستطيع الاقتراع، لكننا لا نملك الصوت». كما تنخفض أعداد الملتحقين بالأحزاب، إذ وصلت في العقد الماضي إلى أدنى معدلاتها خلال نصف القرن الأخير، كما يتضح في دراسة أجراها الإيرلندي بيتر ميل على 13 دولة أوروبية في كتابه الصادر في 2013 «حكم الفراغ» (Ruling the Void).
ويقترن هذا الجمود بشيوع خطاب يستهدف تحويل تلاشي الحدود بين اليمين واليسار إلى إجماع ديموقراطي وسطي لمجتمع مستقر. ويدل هذا الخطاب على أن النموذج الغربي بلغ نهاية مرحلة من دون أن يجد طريقاً إلى مرحلة جديدة في تطوره، فأصبحت التعددية التي تُميّزه عن غيره مهددةً بفعل تداعيات الجمود، الأمر الذي يشجع القوى القومية المتطرفة على أن تحاول فتح طريق آخر.
وتسعى هذه القوى إلى التمدد في المساحات التي فرَّغها الجمود بعد أن تحولت السياسة من نشاط يشارك فيه معظم الناس إلى مشهد يتفرج عليه كثير منهم. كما تزداد فرصها بسبب إخفاق الحركات الاجتماعية ذات التوجهات اليسارية في ملء الفراغ، إذ ينحسر بعضها بعد فترة وجيزة، ويُحتوى بعضها الآخر في أطر حزبية تتجه إلى التكيف مع المنظومة الجامدة.
وفيما يفسر محللون ذلك بأن حال الجمود ما زالت أقوى من دينامية الحركات الاجتماعية، ينبغي الانتباه إلى نقطة الضعف الرئيسة في كثير من هذه الحركات، وهي أنها تعرف ما لا تريده أكثر مما تدرك ما تريد، فضلاً عن أن الميل اليساري لمعظمها يتسم بتوجهات شمولية في بعضها. وتظهر هذه التوجهات في شعارات من نوع «نحن الـ99 في المئة».
لذلك أصبح القوميون المتطرفون أكثر تأثيراً وقدرةً على التقدم لملء الفراغ الناتج عن الجمود، ولكن في ظروف مختلفة وبأشكال متباينة عما حدث في العشرينات والثلاثينات.
وهـكـذا يبــدو أن الإرهاب ليس إلا عنصراً صغيراً في تشكيل أزمة الغرب الكبيرة المرشحة لأن تُنتج آثاراً خطيرة، الأمر الذي قد يجعل العالم في حاجة إلى معجزة لتجنب كارثة ربما تنتظره خلال سنوات. |