التاريخ: حزيران ١٩, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
مستقبل الإسلام السياسي بعد مبادرة «النهضة» - وحيد عبد المجيد
سيبقى الجدل مستمراً حول المراجعة التي أجرتها حركة النهضة التونسية، وتخلت بموجبها عن الإسلام السياسي العابر للحدود، إلى أن تُختبر في الواقع. وعلى رغم اختلاف التقديرات في شأن المراجعة، فهي تُعد الأولى من نوعها في تاريخ حركات الإسلام السياسي في العالم العربي.

لم يحدث قبلاً أن قررت إحدى هذه الحركات الخروج من إطار الإسلام السياسي، والعمل في الإطار الوطني، عبر مراجعة علنية تنطوي على شيء من النقد الذاتي. فعندما حدث مثل هذا التحول في المغرب مثلاً، كان تدريجياً عبر تفاعلات في الواقع، وليس عبر مراجعة فكرية.

وتزداد أهمية مبادرة النهضة، على رغم أن مراجعتها ليست مكتملة ومتكاملة، إذ تأتي فيما يعاني تيار الإسلام السياسي أزمة هي الأكبر في تاريخه.

لذلك قد يكون أثر هذه المراجعة في مستقبله، بعد فترة، أقوى مما يبدو اليوم. لكن السؤال المهم اليوم هو عن مدى قوة هذا الأثر أو ضعفه بغض النظر عن الوقت الذي سيستغرقه.

وربما تفيد هنا العودة إلى تجربة المراجعة التي بدأها في 1973 الحزب الشيوعي الإيطالي بمبادرة من زعيمه آنذاك أنريكو برلنغوير، حين تخلى عن طابعه الأممي، وأعاد النظر في بعض المسلمات الماركسية حينذاك كديكتاتورية البروليتاريا. فقد ظلت آثار تلك المراجعة ضعيفة، إذ لم تتردد أصداؤها إلا في عدد قليل من الأحزاب الشيوعية الأوروبية. لكن جدية تلك المراجعة، التي التحق بها الحزب الشيوعي الإسباني وأضاف إليها، خلقت نموذجاً لخصه الأمين العام لهذا الحزب وقتها سنتياغو كاريُّو، في مقدمة كتابه «الشيوعية الأوروبية والدولة»، بأن يكون الحزب الشيوعي متلائماً مع النظام الديموقراطي من دون أن يصبح حزباً اشتراكياً ديموقراطياً. ومثلما لم يكن مطلوباً من حزب شيوعي مُراجِع أن يفعل أكثر من ذلك، فليس ضرورياً أن تصبح حركة النهضة حزباً ليبرالياً أو يسارياً مثلاً لكي يُعترف بأنها أقدمت على مراجعة.

والمقارنة بين حركات إسلامية سياسية وأحزاب شيوعية جائزة من الناحية المنهجية بسبب القواسم المشتركة بين القوى العقائدية ذات المرجعيات المطلقة والخلاصية، أياً كان الاختلاف بين هذه المرجعيات.

وتفيدنا هذه المقارنة بأن الحزبين الشيوعيين الإيطالي والإسباني أعلنا مراجعتهما في وقت كان «الحزب الأب» بالنسبة إلى التيار الرئيس في الحركة الشيوعية العالمية ممسكاً بزمام السلطة في موسكو وقادراً على التأثير. وقد أعلن الحزب الشيوعي السوفياتي وقتها حال تعبئته لمواجهة تلك المراجعة، والتحذير من «أثرها التفكيكي» في الحركة الشيوعية العالمية.

ويختلف هذا السياق عن الظرف الذي أعلنت النهضة فيه مراجعتها بعد أن فقدت الجماعة الأم بالنسبة إلى معظم حركات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون في مصر) نفوذها الذي تمتعت به لدى الكثير من هذه الحركات، وأصاب التفكك تنظيمها الذي لم يعرف من قبل إلا انشقاقات محدودة غير مؤثرة.

وليس متصوراً أن تستطيع جماعة دب فيها التفكك، وصار انقسامها إلى اثنتين أو أكثر وارداً، ادعاء أن المراجعة التي أجرتها النهضة تؤدي إلى تفكيك تيار الإسلام السياسي.

كان هذا الإدعاء هو السلاح الذي تلجأ إليه قيادة جماعة الإخوان في مصر مع ظهور أية محاولة لمراجعة أو تجديد داخلها. وفعل مثلها قادة جماعات إسلامية سياسية أخرى، ما جعل النقد الذاتي في تقاليد الإسلام السياسي رذيلة ينبغي تجنبها لأنه يؤدي إلى شق الصف، وقد يؤسس للفتنة. وأصبح الانصهار في البوتقة التنظيمية الواحدة لما يُسمى «مدرسة الإخوان»، وما يقترن به من ولاء عاطفي ساذج، فضيلة يجدر التحلي بها.

لكن الجماعة الأم في تيار الإسلام السياسي فقدت أهليتها، وليس قدرتها فقط، لمواجهة المراجعة التي أقدمت عليها النهضة، بعد أن دفعت ثمناً فادحاً لرفض قيادتها أية مراجعة أو تجديد. وهي لم تعد في وضع يسمح لها بأن تلقي دروساً على غيرها، وهم في حال أفضل أو أقل سوءاً منها. كما أن الصراع الداخلي الذي تزداد حدته في داخلها يستنزف معظم ما بقي لها من طاقة محدودة.

وربما يكون الظرف الموضوعي مهيئاً، والحال هكذا، لأن تُحدث المراجعة التي أجرتها النهضة أثراً في حركات إسلامية سياسية أخرى قد تجد فيها إما مخرجاً من أزمتها الحالية، أو سبيلاً إلى تجنب مثل هذه الأزمة في لحظة تزداد فيها علامات الاستفهام أمام السؤال عن مستقبل الإسلام السياسي.

والأرجح أن تكون الحركات الأقل انغلاقاً من الناحية التنظيمية هي الأكثر قابلية للتأثر بهذه المراجعة، بغض النظر عن مدى تشددها السياسي - الديني (الفقهي). فالمستفاد من خبرة الإسلام السياسي عموماً، وتجربة الجماعة التي تمثل مركزه في مصر بخاصة، أن أثر الانغلاق التنظيمي في إعاقة المراجعة والتجديد أكبر مقارنة بالتشدد السياسي - الديني.

لذلك ينبغي عدم الاستهانة باحتمال أن تؤدي مراجعة النهضة إلى تغيير في صورة الإسلام السياسي وخريطته خلال السنوات المقبلة، وأن يكون أثرها أكبر مقارنة بما أحدثته مراجعة الحزبين الإيطالي والإسباني في أوساط الحركة الشيوعية العالمية.

فقد أجرى هذان الحزبان مراجعتهما مبكراً في وقت كان مركز الحركة الشيوعية العالمية قادراً على مقاومتها ومحاصرة آثارها. أما مراجعة النهضة فجاءت بعد أن أصبح مركز الإسلام السياسي عاجزاً عن مقاومتها.

ولا يُحسب ذلك لراشد الغنوشي، كما لا يُحسب على برلنغوير وكاريّو، بل العكس هو الأصح. فقد امتلك الزعيمان الشيوعيان شجاعة لم تتوافر للزعيم الإسلامي السياسي، إذ واجها «الحزب الأب» حين كان ثاني اثنين في قمة العالم. كما كان لديهما من البصيرة ما أتاح لهما فهم أن الأزمة تتراكم في طبقات عميقة تحت السطح في موسكو، وإدراك علاماتها التي ظهرت في معظم الأحزاب الشيوعية في العالم، أو بالأحرى الاعتراف بها.

ولذلك رأيا ما لم يره الغنوشي إلا متأخراً، على رغم أنه كان أكثر نضجاً ومعرفة من معظم قادة الإسلام السياسي في العقود الأخيرة.

وأياً كان الأمر، ربما تؤدي مبادرة النهضة إلى تغيير يفك عقدة الإسلام السياسي التي صارت من أهم أسباب عرقلة التطور الديموقراطي في بلدان عربية عدة.