التاريخ: كانون ثاني ٨, ٢٠١٦
الكاتب:
المصدر: مجلة السياسة الدولية - مصر
دور "العمى الإدراكي" في تفسير ارتباك الثورات العربية (حالة مصر)
 بغض النظر عن تباين الإدراكات السياسية وهو أمر طبيعي يرتبط بمصالح كل طرف من أطراف أى صراع كما يرتبط بطبيعة الخلفية اللأيديولوجية أو السياسية لكل طرف، فإن هذه الورقة تنصب على مفهومين أساسيين: أولهما "سوء الإدراك" الناتج عن تغافل الإدراك وتناقضه مع حقائق موضوعية على الأرض يمكن بعدها الاختلاف وممارسة الصراع، وثانيهما "سوء الإدراك المتبادل" وهو تعبير عن حالة أكثر تعقيداً لا يقتصر سوء الادراك فيها على طرف واحد بل على أكثر من طرف أساسي من أطراف الصراع، ويصل إلى ذروته حال افتقار كل طرف للإدراك الصحيح لطبيعة الأطراف الأخرى وإدراكاتها السياسية وتقدير قوتها وردود أفعالها. في النهاية تقع أطراف الصراع في حالة من " العماء الإدراكي "، نتيجة عمليات معرفية ونفسية تجعل كل طرف يركز على حقائق تؤيد منظوره الإدراكي المختزل المسبق للواقع الكلي للصراع، مع تغافل ( غير محسوس ولا مقصود ) لحقائق أخرى لا تتسق مع هذا الإدراك. لهذا السبب عادة ما يعاني أصحاب هذا الإدراك الخاطئ صدمة النتائج المعاكسة لرؤيتهم على الأرض، وهو ما يصل بهم إلى مستوى أكثر تعقيداً هو مستوى الإرتباك الإدراكي الذي ينتهي بحالة من الشلل وعدم القدرة على اتخاذ أى قرار. وتفسر هذه الحالة ظاهرة بطء وتأخر صدور القرار إزاء أزمات ملحة في بعض الأحيان، كما تفسر صدور القرار ثم نقيضه في أحيان أخرى، أو صدور قرارات ضعيفة غير حاسمة أو متناقضة داخلياً في حالات ثالثة.

بالإضافة لأسباب موضوعية تتعلق بخصوصية التركيب الاجتماعي السياسي المعقد للمجتمعات العربية، فإن "سوء الإدراك" و"سوء الإدراك المتبادل" بين أطراف الصراع قد لعب دوراً جوهرياً لم يتم تسليط الضوء الكافي عليه في خلق حالة استعصاء التوافق بين الأطراف في الصراعات السياسية التي نشبت – ولا زالت – في تجارب "الربيع العربي"، وهو ما انتهى بها لمسارات متعثرة ومتعرجة بل ومتصادمة خرجت بها عن المسار النظري المستقر لتجارب التحول الثوري نحو الديمقراطية في العديد من دول العالم منذ تسعينيات القرن الماضي. وسوف تحاول الورقة استكشاف الطرق التي تجلى بها كلا المفهومين والدور الذي لعباه في تفاقم ارتباك مسار التغيير في الحالة المصرية مع إشارات لحالات أخرى ضمن الربيع العربي.

أولاً: خطأ القياس نموذج سابق
1 نموذج ربيع شرق أوربا
لكل منطقة حضارية خصوصياتها الثقافية ولكل مجتمع خصوصيته الاجتماعية والسياسية ومن الصعب تكرار التجارب. بدايةً ساهمت الطريقة التي تلقت بها النخب الغربية - الرسمية وغير الرسمية – وكذلك غالبية النخب العربية ما سمى ب"الربيع العربي" في إحداث حالة من "العمى الإدراكي" المبكر الذي أعاق التوصل لتشخيص واقعي لتلك العملية الاجتماعية السياسية التي اجتاحت المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة وبطرق متباينة (1). تجلى هذا "العمى الإدراكي" في الاستخدام السطحي والمتسرع وغير الدقيق لوصف "الربيع" من الأساس؛ فلسنوات طويلة عرفت الدراسات السياسية نظرية "الإستثناء العربى" للتعبير عن استعصاء هذه المنطقة من العالم على موجات التغيير الديمقراطى – ثورةً أو سلماً – تلك التى اجتاحت مجتمعات أوربا الشرقية قبل أن تمتد لمجتمعات أخرى في أنحاء العالم. ولكن هذه المشابهة المتسرعة تجاهلت أن هذه المجتمعات بدأت ربيعها السياسي انطلاقاً من أساس ثقافي تم تحديثه؛ فبصرف النظر عن التباين السياسي بين نظمها الشمولية وبين نظم الديمقراطية في غرب أوربا، إلا أن مجتمعات شرق أوربا عرفت عصر التنوير– بدرجات متفاوتة - الذي أسس لمنظومة قيم ثقافية حديثة قامت على العلمانية والتفكير المدني وأدركت مخاطر ادعاء الحكم باسم الدين، كما تشربت قيم العقلانية والواقعية ونسبية الأفكار، وتدريجياً تشكل لديها مجتمع مدني ونقابات قوية كما قطعت أشواطاً حاسمة على مضمار محو الأمية القرائية والثقافية والسياسية، لذلك كانت مشكلتها محض مشكلة سياسية محدودة، لا تقتضي سوى التحول من نظام سياسي "حديث" ( اشتراكية مركزية الحزب والدولة) إلى نظام سياسي "حديث" آخر ( ديمقراطية اجتماعية تعددية)، لا مشكلة ثقافية تقتضي التحول من منظومة قيم ثقافية لأخرى، وهو تحول تاريخي عادةً ما يحتاج لفترة زمنيةٍ أطول. على الأرض وفي ميادين التظاهر كان ذلك يعني وجود كتلة مدنية ذات ثقافة سياسية طامحة لإنجاز أهدافها ومصرة عليها، وفي أروقة التفاوض السياسي كان يعني أيضاً وجود أطراف سياسية قادرة على التوصل لحلول وسط تمثل تقدماً – ولو بطئ – على مضمار التحول نحو المزيد من الديمقراطية والعدالة وقادرة أيضاً على تفادي الانزلاق للصدام السياسي المطلق أو للفوضى أو للحرب الأهلية(2). والواقع أن المجتمعات العربية لم يكن قد ترسخ لديها هذا المستوى من القيم الحداثية بعد، ولا امتلكت شعوبها – ولا نخبها – تلك "الثقافة السياسية" الضامنة لإنجاز التحول نحو الديمقراطية والعدالة .

منعت هذه الحالة المتسرعة من "القياس على نموذج سابق" رؤية أو توقع الأدوار الرئيسية التي لعبتها عوامل تقليدية كامنة في النسيج الاجتماعي لمجتمعات الربيع العربي (3)؛ خاصة القبلية والطائفية وضعف الثقافة السياسية وتخلفها كمعوقات أمام ازدهار ربيع ديمقراطي سريع خاصةً فى اليمن وليبيا، كما كشفت الحالة السورية عن الدور السلبي الذي يمكن أن يلعبه جيش طائفي قمعي يدين بالولاء للنظام قبل الوطن. في النهاية أدت كل هذه العوامل التي لم تكن مرئية ولا مقدرة إلى دخول هذه المجتمعات في حالة الحرب الأهلية. من ناحية أخرى ظهرت حركات الإسلام السياسي والجهادي في بعض المجتمعات العربية كمعوق إضافى فى نظر البعض، وهو متغير داخلي آخر لم تعرف تجارب الربيع في العالم نظيراً له. أخيراً تسببت هذه الحالة من "العمي الادراكي" في التغافل عن شرط الدعم الغربي المباشر والحاسم لربيع أوربا الشرقية، وهو دعم لم يتوفر للربيع العربي. في المقابل كان الدعم المباشر والحاسم في الحالة العربية إقليمياً وفي اتجاهات أخرى غير اتجاه القوى الثورية التي افتقرت لأى داعم إقليمي أو دولي آللهم إلا الاستبشار والدعم المعنوي من قبل أنصار الحرية والعدالة في أنحاء العالم. في جانب من جوانبه تمثل الدعم الإقليمي المباشر والحاسم في دعم تركيا وقطر للإسلام السياسي لتمكينه من الوصول للسلطة في بعض مجتمعات "الربيع العربي"، في مقابل دعم المملكة السعودية والإمارات لعودة مؤسسات الدولة للسلطة، وهو الصراع الإقليمي الذي تجلى على المستوى السياسي في مصر، كما تجلى في صورة دعم أطراف محلية مسلحة في مجتمعات عربية أخرى (4).

2 النموذج الثوري القديم ( يوليو1952)
المثال الثاني لخطأ "القياس على نموذج سابق" تمثل في هيمنة النموذج الثوري القديم على إدراك الثوريين في ميادين الربيع العربي، والمقصود هنا نموذج ثورة يوليو – في صورته المجردة: أحد أطراف الصراع السياسي يتمكن من السيطرة على الحكم عقب هزيمة نهائية سريعة وسهلة نسبياً على الطرف الحاكم، وبالتالي يتمكن الحكام الجدد من إحداث تغييرات ثورية جذرية فورية في بنية النظام: الإصلاح الزراعي، تمصير ثم تأميم المصانع والشركات ...إلخ. أعاقت هيمنة هذا النموذج القديم على إدراك ثوار "الربيع العربي" لحقيقة أن المجتمعات أصبحت أكثر تعقيداً مقارنة بحقبة الخمسينيات حيث تزايد دعم النظامين الدولي والإقليمي للنظم الحاكمة؛ حماية لشبكة من علاقات المصالح الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، بحيث لم يعد الإسقاط "الفوري والنهائي" لتلك النظم ممكناً بنفس البساطة القديمة، وأنه يمكن تقييم مدى نجاح الثورات الجديدة وفق "نظرية الفراشة" التي ترى أن هزة جناح فراشة في أقصى الأرض، يمكن أن تحدث تأثيرات بالغة في الكون كله. هل كان ماحدث في الربيع العربي أقرب إلى ثورة تحريك؟ هل كان تأثيرها السياسي والثقافي والمعنوي من القوة بحيث ينتج تتاليات "ثورية" عبر فترة زمنية ممتدة؟ هل نجحت في فرض أول انتخابات ديمقراطية غير مزورة؟ هل فتحت الباب أمام حق تشكيل الأحزاب لكافة القوى السياسية؟ يفسر افتقاد القوى الثورية وكذلك الملايين التي احتلت الميادين لهذا الإدراك للمعنى الجديد للثورات حالة الإحباط السياسي العميق لدى هؤلاء الذين اعتقدوا – وفق معيار قديم - أن عدم تمكن الثوار من السلطة هو بمثابة الدليل القاطع على هزيمة الثورة.

3 النموذج الإيراني والنموذج التركي
أما المثال الثالث لسوء الإدراك الناتج عن خطأ القياس على نموذج سابق فيتعلق بالإدراك السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ومن ورائها التيار الإسلامي. وقع الإخوان تحت التأثير المباشر لنموذج وصول حزب العدالة والتنمية للحكم ديمقراطياً في تركيا حيناً ونموذج وصول الثورة الإيرانية للحكم بعد ثورة شعبية عنيفة حيناً آخر، والأرجح أن عدم حسم الإخوان تبني أحد النموذجين و ترددهم بين النموذجين كان أحد تفسيرات سقوطهم . ويكشف تتبع السلوك السياسي للإخوان من بداية الثورة عن خليط مرتبك من المحاكاة للتجربتين. فعلى خلاف النموذج الثوري الإيراني، أدت هرولة الإخوان للتفاوض مع عمر سليمان إلى فقدان مكانتهم كقوة يمكن أن تقود الثورة، وعلى الرغم من أن الإخوان بدوا وكأنهم الطرف السياسي الأكثر استعداداً للدخول في حوار وربما تنسيق سياسي مع المجلس العسكري لدرجة فوزهم مع تحالفهم الإسلامي في أول انتخابات برلمانية أشرف الجيش على إجرائها، وهو ما يتسق مع نموذج "العدالة والتنمية"، إلا أنهم في ذات الوقت لجأوا مراراً لأساليب "الثورة الثقافية" التي اعتمدت العنف السياسي والاجتماعي الشعبي في إيران مستخدمين أعضاءهم حيناً أو جماعات متطرفة وعنيفة حليفة في التيار الإسلامي حيناً آخر؛ بداية من العنف السياسي ضد القوى المدنية للسيطرة على المنصات في الميدان وقت ثورة يناير وانتهاء بوقائع العنف في الاتحادية مروراً بحصار المحكمة الدستورية العليا ومقر النائب العام ومدينة الإنتاج الإعلامي. وعلى التوازي انتشرت أحداث من العنف الاجتماعي في قرى ومدن مصر نتيجة فرض مجموعات سلفية وغير سلفية محلية لرؤيتها الخاصة لنمط الحياة اليومية على المواطنين باستخدام العنف.

ثانياً: التضارب الإدراكي: الإخوان والدولة
بالإضافة لصحة مدخل تضارب المصالح بين الإخوان ومجمل التيار الاسلامي كصاعد اجتماعي وصل للسلطة وبين أطراف عديدة اجتماعية سياسية ككبار رجال أعمال عصر مبارك – المستمرين حتى الآن – وكذلك مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والأمن والقضاء وبيروقراطية الدولة، فإن "التضارب الإداكي" كان له نصيب لا يمكن إنكاره في تفسير وصول العلاقة بين الطرفين إلى مرحلة الصدام. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما تكشف تدريجياً من أن تباين إدراك الإخوان لمسألة الهوية باعتبارها هوية دينية تسبق الهوية الوطنية، لم يكن مجرد تباين أيديولوجي نظري بل بدأت تظهر تجلياته في مفهومهم للأمن القومي، وهو ما ظهر فيما أظهروه من تساهل في مسائل حدود الدولة؛ سواء في سيناء أو حلايب وشلاتين، وهو إدراك تعارض بشكل جذري مع ما هو مستقر حول مفهومي الأمن القومي وقدسية حدود الوطن لدى عموم المصريين وفي المؤسسة العسكرية بشكل أخص، إضافة لما ظهر من خلاف حول الطريقة التي يتخذ بها قرار المشاركة في حروب خارج الحدود ولو في الجوار العربي، وهو الخلاف الذي ظهر مع تلميح الرئيس مرسي بمشاركة قوات مصرية لمساندة أطراف إسلامية في سوريا. ويلاحظ أن انكشاف هذا الخلل في إدراك الإخوان للمفهوم المستقر الأمن القومي وحدوده قد دخل بشكل مؤثر في تطور الثقافة السياسية للمصريين وأثر بشكل حاسم في عملية إعادة تقييم قطاعات متزايدة من المصريين للإخوان ما انتهى بثورة شعبية على حكمهم في 30 يونيو.

ثالثاً: خطأ الاحتكام للمنطق الصوري
مثل تصاعد المعارضة السياسية خلال الفترة الأخيرة لحكم مرسي والإخوان والتي وصلت إلى ذروتها خلال أحداث 30 يونيو/ 3 يوليو /26 يوليو، مثل حالة نموذجية ل"التضارب الإدراكي"، فبناء على نوع من "المنطق الصوري" سارعت دوائر غربية تضم حكومات ومراكز تفكير ونخب ثقافية بتبني وصف "الانقلاب" بناء على توافر صورة استيلاء قوة عسكرية على السلطة وإبعاد رئيس منتخب عنها دون عملية ديمقراطية، ويلاحظ هنا أن القطاع الغالب من النخبة السياسية المصرية لم تتبن هذا الوصف الذي كان يعكس إدراكاً جزئياً لم يضع في اعتباره الملايين التي خرجت للميادين ضد مرسي والإخوان، ويرجع هذا التهوين الغربي من البعد الشعبي لحدث 30 يونيو إلى عدم قدرة تلك الدوائر على تقبل فكرة حدوث تحول دراماتيكي سريع – نسبياً - في الاتجاه الرئيسي للإدراك السياسي للرأى العام المصري.

ثمة عاملان رئيسيان يمكن أن يفسرا الأمر؛ أولهما أن المصريين - كأفراد وكجماعة وطنية - لم يعرفوا فكرة المسئولية السياسية بشكل حقيقي إلا منذ 25 يناير 2011 بعد تاريخ طويل ظلوا خلاله مفعولاً بهم، إضافة إلى وجود جماعة كالإخوان المسلمين الذين لم يكن المصريون قد جربوهم في الحكم من قبل، يفسر هذان العاملان حالة عدم الاستقرار و الهشاشة التي طبعت الرأى العام السياسي المتقلب في مصر منذ 25 يناير(5)؛ فبغض النظر عن الكتلتين الثابتتين: المؤيدة للإخوان والمعارضة لهم، ثمة كتلة رئيسية متوترة متقلبة هى التي صوتت لصالح الإسلاميين في أول انتخابات برلمانية ورئاسية بعد ثورة يناير قبل أن تتظاهر ضدهم في الميادين في 30 يونيو. وبغض النظر هنا عن الفكرة الديمقراطية الأصيلة الرافضة لأى تدخل عسكري خارج ضوابط العملية الديمقراطية ذاتها، فإن الإدراك الغربي لم يتمكن آنذاك من تقدير طبيعة العلاقة الخاصة بين الشعب والجيش في مصر والتي تفسر ظاهرة التأييد المليوني لتدخل الجيش في 3 يوليو ( التظاهرات المليونية في 26 يوليو ) كما فسرت قبل ذلك حالة القبول العام – حتى من قبل القوى الليبرالية بل والإخوان أنفسهم – لتفويض مبارك للمجلس العسكري لإدارة شئون البلاد في 11 فبراير 2011، وكما فسرت بعد ذلك تحول السيسي لبطل شعبي لدى المصريين بشكل ربما تجاوز إدراك الجيش وإدراك السيسي نفسه.

رابعاً: خطا ثبيت الصورة: عدم إدراك التغيير
لأسباب اجتماعية داخلية ولأسباب خارجية ذات طابع استراتيجي أصبحت المنطقة العربية الأكثر تعرضاً للتغيرات المتسارعة، وعلى الرغم من ذلك فإن أحد ملامح الإدراك السياسي العربي – إن جاز التعميم – هو افتراض ثبات الأوضاع والافتقار للقدرة على التقاط إرهاصات التغيير مبكراً؛ فباستثناء الدول النفطية التي سمحت وفوراتها الاقتصادية بتأجيل انفجار تناقضاتها الداخلية وباستثناء نظم ملكية غير نفطية تمكنت – نسبياً - من تحقيق الاستقرار كالأردن أو المغرب التي تكاد تكون الوحيدة بين الدول العربية التي استبقت بتنفيذ برنامج جاد للعدالة الانتقالية، باستثناء هذه الحالات فإن هذه النزعة الإدراكية لتثبيت اللحظة المجتمعية والعجز عن إدراك إرهاصات التغيير تجلت لدى معظم النظم العربية التي فوجئت بنزول الملايين لميادين "الربيع العربي". في الحالة المصرية يمكن لهذه النزعة تفسير استمرار نظام مبارك في تزوير انتخابات 2010 وتماديه في الإعداد لمشروع التوريث، حيث افتقر النظام القدرة على ادراك إرهاصات التململ والإحباط التي ولدت انفجار يناير.

من ناحية أخرى وقع الإخوان المسلمين في خطأ تثبيت صورة "الأغلبية الشعبية المؤيدة" لهم، بناء على حقيقة كونهم التنظيم السياسي الأكثر عدداً وتنظيماً والجماعة السياسية الأكثر أنصاراً، ولذلك لم يتمكنوا من توقع إمكانية خروج الملايين وراء فكرة الثورة المدنية المطالبة بالعدل والديمقراطية في ثورة يناير. وعلى الرغم من أن الإخوان تمكنوا تدريجياً من تجاوز هذه الصدمة الإدراكية الأولى إلا أنهم عادوا لتكرار ذات الخطأ حين ثبتوا اللحظة مرة أخرى وعجزوا عن إدراك حدوث تحول سريع في الثقافة السياسية للملايين التي أسقطتهم في الميادين في 30 يونيو بعد أن صوت غالبيتهم لهم أول انتخابات برلمانية ورئاسية بعد الثورة. أما التثبيت الثالث الذي وقع فيه الإخوان فكان يتعلق بتثبيت صورة المجلس العسكري وكافة مؤسسات الدولة بناءً على ما أظهرته هذه المؤسسات من ارتباك في إدارة الصراع السياسي الذي تفجر منذ يناير. أساء الإخوان تقدير القوة الكامنة لمؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية ومكانتها لدى المصريين وعجزوا عن الفصل بين هذا المعنى وبين نقد المصريين للأداء الإداري وحتى السياسي لتلك المؤسسات، تماماً كما عجزوا عن التمييز بين لحظة ارتباك مؤقتة وحالة عجز دائم وأصيل. لم يدرك الإخوان عملية التغيير التي تجاوز المجلس العسكري بمقتضاها فترة الارتباك الأولى وقدرته تدريجياً على توظيف مؤسسات الدولة وقوى سياسية متعارضة في إطار خطة واحدة لإسقاط الإخوان واستعادة الدولة، والأهم أن الإخوان فوجئوا أن الملايين لم تخرج فقط لإسقاطهم ولكن بعد أن تغير خيارها السياسي في اتجاه الحفاظ على مؤسسات الدولة وتفادي الحرب الأهلية.

بغض النظر عن القطاع من الشعب المؤيد للإخوان والرافض لمسار 30 يونيو، فإن الكتلة الشعبية المؤيدة ل 30 يونيو كانت قد اتخذت قراراً جمعياً غير معلن بإعطاء النظام الجديد الفرصة الزمنية الكافية لتحسين الأوضاع، إضافة لقرار جمعى آخر مؤداه إعطاء الأولوية في هذه المرحلة لتحقيق الاستقرار الأمني وبدء خطط لتلبية التطلعات الاقتصادية الاجتماعية مع إرجاء المطالب السياسية الخاصة بالديمقراطية والحريات إلى حين.

ولكن على الرغم من احتفاء الخطاب الرئاسي بثورتي يناير ويونيو وتأكيده على تواصلهما ورفضه لأى مظهر من مظاهر الصراع بينهما، فإن بعض الأصوات الرسمية أو التي ينظر لها باعتبارها غير بعيدة عن الموقف الرسمي متحالفة مع بعض مراكز مصالح عصر مبارك العائدة إلى المشهد تعبر عن تهوين مبالغ فيه لتحولات الوعي الشعبي والسياسي بعد 25 يناير وتتصرف وكأنه من الممكن تثبيت التاريخ عند أوضاع ليلة 24 يناير 2011 واستئناف المسار السياسي والاقتصادي للبلاد بعد 30 يونيو وكأن الوعى والثقافة السياسية للمصريين لم تتغير مع تراكم الخبرات السياسية لثورة يناير حتى إسقاط حكم الإخوان، وهو استقطاع غير ممكن للجزء الأهم والأكثر حيوية وتأثيراً على الإدراك السياسي لعموم المصريين كل حسب موقعه من الصراع الاجتماعي السياسي مؤيد لتلك الثورة أو تلك أو لكلاهما معاً(6).

يكمن الخلل الإدراكي هنا في عدم إدراك الطابع المؤقت والمشروط للموقف الشعبي بتعليق الفعاليات السياسية والفئوية منذ 30 يونيو وما بعدها، بل تثبيته وكأنه ينبغي أن يتحول لحالة دائمة، دون قدرة على رصد المؤشرات الدالة على أن هذا الإجماع الشعبي بدأ يختل ودون تقدير لخطورة دخول قطاعات شعبية متزايدة في دائرة الفتور والإحباط السياسي نتيجة تأخر الوعود والتطلعات – الاقتصادية الاجتماعية خاصة – التي صاحبت مناخ 30 يونيو بدليل تدني نسب التصويت في الانتخابات البرلمانية ، وأن قطاعاً مؤثراً من شباب المدن بوجه خاص بدأ يعرب بشكل متزايد عن تململه من توسع دور الأمن لتتخذ بشكل متزايد صورة تستدعي مناخ إلغاء الحريات وتعدد الآراء وتأميم المجالين السياسي والإعلامي.

خامساً: التضارب الإدراكي حول مدى التغيير المطلوب
بدايةً ثمة تضارب جوهري بين الدولة والمجتمع في الإدراك السياسي لطبيعة الهدف الأساسي الملح والضروري الذي ينبغي أن يحكم سياسات الدولة في اللحظة الراهنة. يهيمن على الدولة تصور شديد الواقعية والتحفط يرتكز على فكرة تفادي سقوط الدولة ومواجهة المخاطر الخارجية واستعادة الاستقرار الأمني وعودة عجلة الاقتصاد للدوران. يتسم إدراك الدولة بنهج دفاعي يكتفي بتثبيت الأوضاع على ما هي عليه واعتبار أن مجرد استقرارها يعد إنجازاً وهى الرؤية التي تم اختزالها من قبل مؤيديها في صورة عبارات من قبيل " أفضل من سوريا وليبيا "...إلخ. في المقابل عانت الشرائح الدنيا والمتوسطة سنوات طويلة من الحرمان الاقتصادي ومشاعر مكتومة بالظلم الاجتماعي وتوق عارم للحرية. وتكمن الأزمة في التناقض الحاد بين هذين المستويين من الإدراك... يسود الدولة اعتقاد بأن لا حل سوى سنوات أخرى من العمل الشاق والصبر وإرجاء الطموحات وأنه لابديل سوى ذلك. في المقابل ثمة شواهد ومؤشرات على أن استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لم يعد ممكناً وظهور الدولة في صورة مرتبكة الأداء في الأزمات المتتالية لم يعد محتملاً، وأن صبر القطاعات الهشة اقتصاديا واجتماعيا وكذلك الشباب قد بدأ ينفذ.

في مثل هذا الظرف السياسي يكمن الحل في أن يقدم النظام أدلة دامغة للشعب على أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح وأن نوايا الإصلاح الحقيقي متوفرة. ولكن المشكلة أن تحليل الإدراك السياسي للدولة يبدو وكأنه يفتقر لأى نية أو جرأة على المخاطرة بإحداث تغييرات هيكلية في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو ما يتطلب توجها نحو إحداث إصلاحات جذرية في مجالات الانفتاح السياسي وتوزيع أكثر عدالة للعوائد الاقتصادية وتغييرات هيكلية في بيروقراطية الدولة ومواجهة الفساد ... إلخ، وهى تغييرات يبدو أنها الوحيدة على القادرة على توصيل رسالة مؤثرة للشعب أن الإصلاح الحقيقي قادم ولو بعد حين، مهما كانت الصعوبات التي قد تواجه عملية تجسيد هذه التغييرات على الأرض.