التاريخ: تشرين الأول ٤, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
هل نظلّ ندافع عن نظام المواطنة؟ - محمد الحدّاد
ومع ذلك فإنها تدور! هكذا قال غاليليه بعد أن انتهت محاكمته واضطرّ أمام هيئة التفتيش الى التراجع عن قوله بأنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس. ومن المأساة أن يسكت صوت الحقّ أمام سطوة الباطل، لكن من المرجّح أنّ أعضاء المحكمة لم يكونوا جميعاً أشراراً، وأنّ كثراً منهم كانوا يظنّون أنّ نظرية غاليليه مخالفة للحقّ، بما أنها تعارض اللاهوت والفلسفة في آن واحد، فضلاً عن مخالفتها الحسّ السليم، إذ يرى كلّ إنسان الشمس تشرق صباحاً وتغيب مساء، فكيف يقال أنها ساكنة!؟

ومع ذلك فإنها تدور، كما قال غاليليه لنفسه وكما أصبح مسلّماً به بعد عشرات السنين. كانت هذه الحادثة مثالاً بارزاً على ضرورة التواضع. فثمة أمور كثيرة ظلّت راسخة ومعتبرة حقائق ثابتة وبديهية من دون أن تكون صحيحة. لقد ظنّ الناس على مدى عقود ومن مختلف الحضارات والأديان، أن العبودية وضع طبيعي إلى أن حصلت الثورة الصناعية وعوّضت العبد بالآلة فانهار هذا اليقين. وظنّوا أنّ الأوبئة يحملها الهواء، فاعتبروها قدراً محتوماً إلى أن اكتشف الطبّ الجراثيم والعدوى. ولم يخطر على بال أكبر جغرافيي العالم القديم أنّ وراء البحار قارّة ستغيّر وجه التاريخ عندما يكتشفها صدفة ملاّح إسباني مغامر.

والإلفة هي التي جعلت الناس يظنّون أنّ أفضل فرص التعايش بينهم تتحقّق باجتماعهم على حقيقة واحدة، فظلّوا يتناحرون كي يتخلّصوا من الكفّار والهراطقة وأصحاب الأهواء والخونة والعملاء، ولم يجنوا من هذا التناحر إلاّ مزيداً من العنف والدمار. وما زال الشرق الأوسط الكبير يعيش على هذا الوهم، ويرفض نظام المواطنة، بل أصبح طرح هذا الموضوع في بعض السياقات والبيئات مثيراً للسخرية، إذ يبدو بعيداً من الواقع مفصولاً عن المجتمع مرادفاً لليوتوبيا، كما يتّخذ دليلاً على تحليق المثقف في سماء بعيدة من البشر. ولقد تراجعت نظرية المواطنة حتى أصبح غايةَ المنى تحقيق التعايش السلمي في مجتمعات تحافظ على طابعها القبلي والطائفي، وأصبح هذا التعايش يدعى مواطنة أو «تبيئة» محلية لمفهوم المواطنة. ومع ذلك، فإنه يبدو بدوره بعيداً من التحقيق!

لكن في الآن ذاته، نرى الناس يسلّمون بأنّ مصائبهم تعود إلى سيادة الطائفية على القانون، وضعف الدولة أمام الزعامات، والجميع يدرك أن الأحزاب لا تعدو أن تكون تجمعات طائفية مقنعة أو مكشوفة، وأنّ مجموعات طائفية لا تتردّد في أن تدّعي أنها حزب الله وأنصار الله من دون سائر البشر.

وعندما يشتدّ الوضع وتختنق الأنفس، يعاب على الدولة ضعفها وعجزها، كما لو كان الأمر قابلاً لغير تلك الصورة في دول تخضع لزعامات غير قابلة للانتخاب والمساءلة والنقد، ويغيب فيها مفهوم المواطنة أو يحضر مجرّد كلمة من دون مضمون.

ثم إنّ الفكرة القائلة بأنّ المواطنة ليست نظاماً صالحاً للشرق الأوسط لم تعد أطروحة طائفية فحسب، فقد أصبحت أيضاً نظرية تدرّس في العلوم السياسية منذ أن كتب برتراند بادي، متأثراً بالثورة الإيرانية، كتابه «الدولتان» (تُرجم إلى العربية). ومع أنّ بداية الثورات العربية قد دفعت البعض إلى الثأر من هذه الأطروحة بتنزيل تلك الثورات في الحراك العالمي للمواطنة والانتقال الديموقراطي، كما حصل في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، فإنّ مصير تلك الثورات جاء ثأراً من الثأر وعوداً إلى نقطة البداية.

ومع ذلك، فإنّ المواطنة هي الحلّ الوحيد لمشكلات الشرق الأوسط الكبير، ولا مخرج له من الانسداد التاريخي الذي يقبع فيه إلاّ بإعادة ترتيب اجتماعه السياسي على أساس نظام المواطنة، والتخلّص من وهم الفرقة الناجية والمهدي المنتظر، وما عدا ذلك سراب.