لمعالجة موضوع مخاطر الفراغ الرئاسي على السلطة القضائية نقسم البحث الى أربع فقرات تتناول تباعاً: 1 - المركز السامي لرئيس الجمهورية في النظام الدستوري اللبناني. 2 - خطر الفراغ الرئاسي على المجلس الدستوري. 3 - خطر الفراغ الرئاسي على القضاء. 4 - خطر الفراغ الرئاسي على استقلال السلطة التنفيذية. الفقرة الأولى: المركز السامي لرئيس الجمهورية في النظام الدستوري اللبناني:
تنص الفقرة الاولى من المادة الاولى من المادة /49/ من الدستور اللبناني على ما يلي: "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور...".
وتنص المادة /50/ من الدستور على ما يلي: "عندما يقبض رئيس الجمهورية على أزمّة الحكم عليه أن يحلف أمام البرلمان يمين الإخلاص للأمة والدستور بالنص التالي: "أحلف بالله العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه"...".
يتبين بجلاء من المادتين السابقتين أن الدستور قد وضع رئيس الجمهورية في المركز السامي، وأولاه المكانة الرفيعة والمقام العالي، ورسم له دوره المرموق في السهر على احترام الدستور والقوانين وحفظ الاستقلال وسلامة أراضي الوطن، كما خوّله المحافظة على دولة القانون والمؤسسات الدستورية، وبذلك يكون رئيس الجمهورية صمّام الأمان للنظام الدستوري اللبناني، واقفاً على مسافة واحدة من جميع السلطات الدستورية ومحافظاً على انتظام عملها.
والى ذلك أعطى الدستور رئيس الجمهورية المهمة الكبرى في الحفاظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه، أي المهمة المتعلقة بسيادة الدولة على أرضها وحفظ كيانها.
اقتضى هذا الدور السامي لمقام الرئيس في النظام الدستوري اللبناني أن يُقْسِم وحده أمام مجلس النواب، يمين الإخلاص للأمة والدستور، وفقاً للمادة /50/ السابق ذكرها.
وحمايةً لهذا الدور الكبير نصّت الفقرة الاولى من المادة /60/ من الدستور على أنه: "لا تبِعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خَرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى". وهذا امتياز كبير لم يُمنح لغيره من السلطات، بالرغم من إعطائه صلاحيات تجعله قادراً على ممارسة مهماته، لا مجال لتفصيلها في هذه العجالة، وسنذكر بعضها كلما اقتضى البحث ذلك.
الفقرة الثانية: خطر الفراغ الرئاسي على المجلس الدستوري:
في الخامس من حزيران من عام 2015، انتهت ولاية المجلس الدستوري الحالي في لبنان، إذ كان أعضاؤه قد أقسموا اليمين أمام رئيس الجمهورية في 2009/6/5. وكانت الفقرة الاولى من المادة /19/ المعدَّلة من الدستور قد نصّت على أنه: "ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية...".
ونصّت الفقرة الثانية من المادة الاولى من قانون إنشاء المجلس الدستوري (رقم 250) على أنه: "... هيئة مستقلّة ذات صفة قضائية". مما يدل على أن المجلس الدستوري ليس جزءاً من السلطة القضائية بالمعنى الحصري، ولكنه سلطة دستورية، وقضاء دستوري، وقراراته ملزمة لجميع السلطات العامة وللمراجع القضائية والإدارية وهي مُبرمة (المادة 13) بشأن اختصاصه في مراقبة دستورية القوانين والطعون الانتخابية النيابية. طالما أن الدستور ذاته نص على إنشائه، وفي الباب الثاني منه المتعلّق بالسلطات، ولذلك وبالنظر لهذه الصفة القضائية لهذا المجلس، نبحث في خطر الفراغ الرئاسي عليه.
وقد نصّت المادة الرابعة من قانون إنشائه في فقرتيها الاولى والثانية على أن: "مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري ست سنوات، غير قابلة للتجديد، ولا يجوز اختصار مدة ولاية أي منهم. - يبدأ احتساب هذه المدة من تاريخ قسم اليمين من قبل جميع الاعضاء".
وتنصّ الفقرة الاولى من المادة الخامسة من قانون إنشاء المجلس الدستوري على أنه: "يُقسِم أعضاء المجلس الدستوري قبل مباشرة مهامهم، أمام رئيس الجمهورية خلال مهلة أقصاها خمسة عشر يوماً من تاريخ اكتمال تعيينهم، اليمين...".
على أن الفقرة الاولى من المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الموضوع بالقانون /243/ المعدّل نصّت على التالي: "عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم الى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين".
إن الغاية التي ترمي اليها هذه النصوص تكمن في تأمين استقلالية وحماية المجلس الدستوري واستمرار عمله نظراً الى طبيعة مهماته وأهميتها على الصعيد القانوني الدستوري، ولذلك احتاط القانون في حالة لم يتم تعيين وانتخاب أعضاء جدد يحلّون محل الأعضاء المنتهية ولايتهم، وعليه سيستمر المجلس الدستوري الحالي بالقيام قانوناً بالأعباء الملقاة على عاتقه، طالما لم ينتخب ويعين سواهم ولم يحلفوا اليمين امام رئيس الجمهورية.
ان هذا الوضع القانوني، وان كان قد أمّن استمرارية المجلس الدستوري، إلا أنه في حالة استمرار الفراغ في سدة الرئاسة، تتولد عنه مخاطر عديدة ليس اقلها: عدم تعيين اعضاء جدد لهذه الهيئة الدستورية المستقلة ذات الصفة القضائية، بعد انقضاء مدة طويلة نسبية على انتخاب وتعيين الاعضاء الحاليين، ومما يحول دون تطبيق مبدأ عدم قابلية تجديد الولاية (المادة 4 من قانون انشاء المجلس) ويحول ايضا دون تطبيق مبدأ تداول السلطة وعدم تطاول العهد عليها او تأبيدها، ويحول دون تقديم رئيس الجمهورية للمراجعة بشأن مخالفة دستورية القوانين، وهو حق قانوني له (المادة 19).
الفقرة الثالثة: خطر الفراغ الرئاسي على القضاء:
في النصف الثاني من شهر حزيران الحالي (2015)، تنتهي ولاية اعضاء مجلس القضاء الاعلى غير الحكميين أو غير الدائمين (الرئيس الاول، مدعي عام التمييز، رئيس هيئة التفتيش القضائي هم الاعضاء الدائمون) وعددهم سبعة بينهم اثنان من رؤساء الغرف في محكمة التمييز ينتخبهما زملاؤهم الرؤساء والمستشارون في هذه المحكمة، اما الخمسة الباقون فيعيّنون بمراسيم، واما مدة ولاية الاعضاء غير الحكميين فهي ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد.
دعا رئيس مجلس القضاء الاعلى الى انتخاب العضوين في 26/ 5/ 2015 وقد تم الانتخاب، اما الخمسة الباقون فهم بانتظار صدور المراسيم بعد ان عُيّنوا فعلا.
ومن المعلوم ان مجلس القضاء الاعلى يقوم بمهمة سامية وهي تسيير مرفق القضاء ويسهر بموجب المادة الرابعة من قانون القضاء العدلي: "على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن".
يُقسم اعضاء مجلس القضاء الاعلى امام رئيس الجمهورية (الرئيس يسمى في الأنظمة الديموقراطية القاضي الاول) وبحضور وزير العدل اليمين المنصوص عنها في المادة الثالثة من قانون القضاء العدلي.
ومع ان نصوص القانون الأخير لم تأت على ذكر موعد مباشرة اعضاء مجلس القضاء الاعلى لعملهم، الا ان المنطق يدل في الظرف العادي، أي عند وجود رئيس للجمهورية، ان هذه المباشرة تحصل بعد قسم اليمين.
ومع الشغور الحاصل في سدة الرئاسة، فان حلف اليمين لن يحصل بالنسبة الى الاعضاء السبعة غير الدائمين في مجلس القضاء الاعلى، وهذا يشير الى خلل خطير: اذ ان القسم يُشعر عضو مجلس القضاء الاعلى بسمو المهمة الموكلة اليه، ومع غياب القسم وعلى فرض جواز مباشرة العمل في مجلس القضاء الاعلى كمرجع اداري لتسيير مرفق العدالة العام، فان اعتواراً ما سيصيب مجلس القضاء الاعلى ولن يصحح الى بعد ان يُقسم اعضاؤه المنتخبون والمعيّنون اليمين امام القاضي الاول رئيس الجمهورية.
ولا يستهينن احد بقسم اليمين، اذ هي تتضمن قيام العضو بمهماته في مجلس القضاء الاعلى بكل امانة واخلاص وان يحفظ سر المذاكرة وأن يتوخى في جميع اعماله حسن سير القضاء وكرامته واستقلاله (المادة الثالثة من قانون القضاء العدلي)، ولو كانت سدة الرئاسة غير خالية، وتمنّع احد اعضاء مجلس القضاء عن حلف اليمين فانه من الطبيعي ان يعتبر مستقيلاً.
ولا أتجاوز حدي اذ انقل تجربتي الشخصية واقفاً امام رئيس الجمهورية وبحضور وزير العدل، مقسماً اليمين كرئيس لهيئة التفتيش القضائي وكعضو في مجلس القضاء الاعلى، وقد اعترتني الهيبة والشعور بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقي، ولا بد ان يكون الأمر كذلك لكل من يمر بهذه الممارسة.
ولا بد من الاشارة الى ان الفقرة /11/ من المادة /19/ من نظام مجلس شورى الدولة تنص ايضا على ان رئيس واعضاء مكتب شورى الدولة يقسمون يميناً مشابهة ليمين اعضاء مجلس القضاء الاعلى امام رئيس الجمهورية وبحضور وزير العدل دون الاشارة الى موعد انطلاق عملهم. على أن المادة الرابعة من قانون تنظيم ديوان المحاسبة تنص على أنه:
"يحلف رئيس ديوان المحاسبة والمدعي العام قبل مباشرته مهامه، امام رئيس الجمهورية وبحضور رئيس مجلس الوزراء اليمين...".
وهكذا فانه في حال تعيين رئيس جديد ومدّع عام جديد لديوان المحاسبة، حال خلو سدة رئاسة الجمهورية، فانه يتعذر عليهما القيام بمهامهما قبل حلف اليمين، الامر الذي لم ينص عليه في حالتي تعيين اعضاء مجلس القضاء الاعلى ورئيس واعضاء مكتب مجلس شورى الدولة.
ومع ان المادة /62/ من الدستور تنص على أنه: "في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء". الا ان معظم العلم والاجتهاد القانونيين يميل الى ان اليمين التي تقسم امام رئيس الجمهورية هي يمين لاصقة بشخصه ولا يستطيع أحد ان يحل محله فيها وهو الذي كان اقسم دون سواه يمين الاخلاص للأمة والدستور.
الفقرة الرابعة: خطر الفراغ الرئاسي على استقلال السلطة القضائية:
اكد الدستور اللبناني على استقلال القضاة في القيام بوظيفتهم وذلك في الفقرة الأخيرة من المادة /20/ منه التي نصت: "القضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم...".
كما وان قانون اصول المحاكمات المدنية نصَّ في مادته الاولى على أن: "القضاء سلطة مستقلة تجاه السلطات الاخرى في تحقيق الدعاوى والحكم فيها". واضافت المادة الاولى في فقرتها الاخيرة ان هذه السلطة: "لا يحد من استقلالها اي قيد لا ينص عليه الدستور".
وكذلك اقر هذا المبدأ قانون القضاء العدلي في المادة /40/ منه التي نصت على ما يلي: "القضاة مستقلون في اجراء وظائفهم".
هذا وقد كرس المجلس الدستوري في قراراته مبدأ استقلال السلطة القضائية ورسم له الاطر التي تحصّنه في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية في عدد من قراراته. منها القرار رقم /2/ تاريخ 17/ 12/ 2012.
والواقع ان رئيس الجمهورية بما هو حارس الدستور والمحافظ على دولة القانون والمؤسسات الدستورية يعتبر ضامنا لاستقلال السلطة القضائية التي هي احدى السلطات الدستورية الثلاث التي نص عليها الدستور، بدلالة ان رئيس واعضاء مجلس القضاء الاعلى ورئيس واعضاء مجلس شورى الدولة والرئيس والمدعي العام لدى ديوان المحاسبة يحلفون يمين الامانة والاخلاص وحسن سير القضاء وكرامته واستقلاله.
بل ان رئيس الجمهورية بما هو حافظ لاستقلال السلطات الدستورية وللتوازن بينها ومنع تفككها وانهيارها، يدخل في مهماته السامية حفظ استقلال السلطة القضائية وعدم التجاوز عليها من قبل السلطتين الاخريين ومن قوى الامر الواقع وعدم استشراء اي فساد فيها، ذلك أن السلطة القضائية ليست جزيرة منفصلة عما عداها. ان اللبنانيين عامة، والقضاة خاصة يشعرون اليوم شعوراً بالغا بخطورة الشغور في سدة الرئاسة الاولى، ويُنزلون ذلك في مرتبة الاخطار الداهمة على الوطن بأسره دولة وشعباً. نائب رئيس المجلس الدستوري
|