التاريخ: آب ١, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
المخرجة اليمنية إنصاف علوي: المرأة في بلادي تحاول الانتصار على الاختلالات الاجتماعية والسياسية

عواد علي     

كيف تستطيع المرأة أن تفرض حضورها الخلاّق والتنويري في مجتمع يتعامل معها بنظرة دونية، ويرفض قبول صورتها في المشهد الثقافي والإعلامي؟ وهل في مقدور التشريعات والاجراءات القانونية التي تتخذها الدولة دعم هذا الحضور، وتغيير النظرة النمطية التي كوّنتها قرون من التخلف؟
الكتابة عن المشهد النسائي الخلاّق في مجتمع كالمجتمع اليمني، الذي يعيش الآن مخاضاً ثورياً، وخصوصاً في حقل الفنون الجماعية (المسرح والسينما والغناء والدراما التلفزيونية)، التي تقتضي اختلاط المرأة بالرجل، تفرض مثل هذين السؤالين بإلحاح، ناهيك بأسئلة أخرى ترتبط بهشاشة البنية التحتية للعمل الفني في البلد (التمويل، الأجهزة والمعدات، المردود المالي)، وضعف الدخل الفردي، وهذه كلها لا تحول دون مساهمة المرأة في الإنتاج الفني فحسب، بل ترغم الفنان بشكل عام على الحفر في الصخر، أو الانصراف إلى حقل آخر من حقول العمل في الحياة.


تقول الشاعرة اليمنية نادية مرعي إن خلق المرأة اليمنية ومساهمتها في الأدب والثقافة لم ينقطعا، لكنهما ظلا مهمشين غير معتنى بهما لأسباب لا تخفى على أحد، وهي راجعة إلى الأمية، والجهل، وسيطرة الأعراف القبلية التي لا تنبع من دين المجتمع وقيمه السليمة، بل من مفاهيم مغلوطة، وعادات اجتماعية لعصر انغلاق وحروب، وويلات سادها الجهل بالدين، وبمكانة المرأة وحقوقها فيه.


ونظراً الى خصوصية الخلق، بالنسبة الى المرأة، في مجال التمثيل والإخراج والتأليف المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، وكذلك الغناء، الذي يتطلب، فضلاً عما أشرت إليه، مناخاً من الحرية الاجتماعية والتمدن والانفتاح لكي يزدهر، فإن عدد الفنانات اللواتي ظهرن في تاريخ الثقافة اليمنية الحديثة قليل مقارنة بعدد المشتغلات في حقول ثقافية أخرى كالأدب والإعلام . من أبرز فنانات المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون، هناك، المخرجة المسرحية إنصاف علوي، والمخرجة السينمائية أمينة السلامي، والممثلات شروق، نرجس عباد، ذكرى احمدعلي، امل عبدالله، رويدا ولينا عدنان، انغام موسى، ووردة سعيد. والمخرجات التلفزيونيات نادية العضب، نادية هزاع، أم عمار، وسماح فريد، والمخرجتان الإذاعيتان أمينة زكريا، وعزيزة عبدالله، والأصوات الغنائية والموسيقية صباح منصر، فتحية فقيه، شروق، فائزة عبدالله، منيرة شمسان، فاطمة الشطري، اسمهان عبد العزيز، أم الخير عجمي، رجاء باسودان، منى همشري، نوال حسن، جميلة سعيد، ماجد نبيهة، كفى عراقي، سهير، ايمان ابرهيم، فوزية حربي، نشوى، وسحر الأصبحي. وقد لا يعرف الجمهور العربي من هذه الأسماء، للأسف، إلاّ عدداً محدوداً جداً. سأحاول في هذه المقالة الحديث عن فنانة مسرحية قدمت أعمالاً متميزة في مجال الإخراج والتمثيل، وشاركت في مهرجانات دولية، وحصلت على جوائز رفيعة المستوى، هي إنصاف علوي، حفيدة وزير الخارجية الأسبق الدكتور عبد الله الأصنج.


تُعدّ علوي، الحاصلة على دبلوم التمثيل والإخراج في معهد الفنون الجميلة بمدينة عدن، والماجستير في الإخراج المسرحي في احدى جامعات روسيا البيضاء عام 1982، أول مخرجة مسرحية أكاديمية يمنية متخصصة. أتاحت لها فرصة الدراسة في الخارج، كما تقول، الاطلاع عن كثب على التجربة الفنية الأوروبية المحاطة بهالة كبيرة من الحداثة والامكانات والبنية التحتية الفنية والتقنية التي تساعد الفنان هناك في تعميق مخياله، وتطوير خلقه وأدائه بشكل مستمر. خلال ربع قرن قدمت إنصاف علوي عدداً من التجارب المسرحية، منها: "قارب في غابة" التي نالت عليها لقب أول مخرجة في اليمن والجزيرة والخليج عام 1981، "البدروم"، "غلطة في حياتي"، "عرض زواج"، "أنا وحماتي ومدير المسرح"، "حبل الغسيل"، "أبو البنات"، "أنت"، "الظل"، "السبع خيارات". ونشرت حديثاً  نصاً مسرحياً من تأليفها بعنوان "سلومة تسلم" تدور أحداثه حول امرأة تحدّت البحر وقهرت الموج، أي المستحيل، كأنها المرأة اليمنية نفسها التي تعاني من الاختلالات السياسية والمناطقية في البلاد، وتحاول أن تنتصر على كل هذه العقبات. بطلة المسرحية سلومة تمكنت منذ الطفولة من أن ترضع الحليب، وترضع عالم البحر أيضا. وحين كبرت، ولم يصبح لها سند ولا ولد، وزوجها عاجز راقد في الفراش، كان عليها أن تعرف كيف تصطاد، فذهبت واسترجعت ما رضعته في الصغر، ونجحت في التغلب على العقبات.


كان لهذه التجارب تأثيرها اللافت في تعزيز الحضور النسائي في المسرح اليمني، وخصوصاً في المسرح التجريبي الذي باتت إنصاف علوي ربما أهم نجومه في اليمن، وتوجته بتأسيس "ستوديو الممثل"، وهو مختبر مسرحي ساهمت من خلاله في تخريج جماعة من الممثلين المحترفين، بمن فيهم أولئك العاملون معها اليوم. تدافع عن هذا التوجه لأنه يشكّل، من وجهة نظرها، "الطريق إلى تعزيز حضور فن المسرح عموماً، فهو يتيح للمخرج التجريب في مدارس عدة حتى يحصل على المدرسة القريبة من إطاره المحلي، كما يتيح فرصة المزج بين تلك المدارس وما هو موجود محلياً ليخرج في النهاية بخلاصة تخصه، وتصير لديه مدرسته وبصمته، فضلاً عن كون هذا المسرح يتجاوز مشكلة الإمكانات التي يشكو منها العاملون في المسرح اليمني، ويتيح لك تقديم ما تريد من عمل وفق ما هو متاح لك من إمكانات".


تعتقد إنصاف علوي أن حاجة الجمهور إلى المسرح التجريبي في العصر الراهن باتت حتميةً لأنه يعتمد التبسيط في إنجاز تجاربه، وهذه ميزة تتناغم والإيقاع السريع للعصر. تضرب مثلاً على ذلك أنها استخدمت في سينوغرافيا عرضها "أنت"، أرجوحة فقط، إلى جانب مقاربة الفكرة برؤية واضحة وأسلوب بسيط. وإلى هذه البساطة تعزو تواصل المتلقي في المسرح مع العرض، وبعكس ذلك فإنه لا يتحمل البقاء في مقعده ثلاث ساعات حتى يفهم الفكرة إذا كان العرض معقداً.


على رغم أن إنصاف علوي تشكو مما تسميه "القحط"، وليس البطالة، في برمجة تفعيلية تنشيطية لإقامة حركة مسرحية مستمرة طوال العام في اليمن بسبب الأمزجة المتقلبة، والمتطفلين، وفقر الموازنة المالية، وغياب الجمهور، فإنها تؤكد وجود هذه الحركة التي تضرب بجذورها في أعماق مئة عام، وهي مستمرة ومتواصلة، وإن لم تتجاوز مشكلاتها، خصوصاً مشكلة غياب العنصر النسائي، التي تُعدّ كبيرة، إذا تُركت من دون حل فستتسبب بكارثة للمسرح في اليمن مستقبلاً. ترى علوي أن مسؤولية حل هذه المشكلة تقع على الدولة بتشجيع المرأة وفتح الأبواب لها وإتاحة الفرصة لتثبت نفسها وتعزز حضورها مسرحياً.


من القضايا التي تؤرق إنصاف علوي في المسرح، وتشدد عليها كثيراً قضية "الهوية" العربية، وترى أن خصوصية التجربة المسرحية اليمنية، التي يشهد لها العديد من كبار فناني المسرح العربي مثل يوسف العاني وعوني كرومي (عراقيان)، وأحمد عامر (مسرحي تونسي)، تكمن في تكريسه الهوية العربية، ولذلك أخذت على المسرحيين العرب في الدورة الثانية عشرة لأيام قرطاج المسرحية بتونس عام 2005، لأنهم، بحسب وصفها، "أصبحوا يؤمنون بكذبة كبرى تسمى الانفتاح جعلت أغلبهم يتخلى عن الهوية ويكتفي بتقليد الغرب". لكن هذا الوصف يمكن أن تُؤاخذ عليه، إذ لولا دراستها للمسرح في الغرب، وإطلاعها على تجاربه لما اكتسبت الخبرة التي تحملها في الإخراج المسرحي.    


يبرز عنصر الموسيقى في تجارب إنصاف علوي الإخراجية على نحو لافت، وفي هذا الصدد تقول إن عملها المسرحي هو عمل موسيقي سمفوني متناغم، فالموسيقى أو النغمة المصاحبة للصورة أو المشهد تجسّد الإحساس، وتنقل الانطباع اللازم، وتخلق التأثير المطلوب، وهي لا تستطيع أن تتخيل نجاح أي عمل درامي من دون موسيقى تترجم الأحاسيس والمشاعر، وتنقل التأثير النفسي المطلوب. وفي عملها الإخراجي تتملكها رغبة لا تقاوم في تصوير بعض المشاهد على أنغام الموسيقى المتآلفة مع وقائعها والمترجمة لها في إيقاع متسق مع طبيعة الفعل الدرامي..


في الدورة السابعة عشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 2005 حققت إنصاف علوي إنجازاً كبيراً ومفاجئاً للحركة المسرحية والثقافية في اليمن بفوز الممثلة شروق بطلة مسرحيتها "أنت" بجائزة أفضل ممثلة دور رئيسي، وهي مسرحية من نوع المونودراما، تأليف الكاتب اليمني عبد ربه الهيثمي، وإنتاج فرقة المسرح اليمني، تتناول قضية معاناة المرأة في الوطن العربي نتيجةً للاضطهاد والقمع اللذين تتعرض لهما من خلال صراع مرير تعيشه احدى النساء مع مجتمعها الذي تسوده ثقافة ذكورية قمعية تسوّغ تهميشها ومصادرة حقوقها الإنسانية، فتضطر إلى التقنّع بقناع الرجل، أو الاسترجال، ومسخ أنوثتها لانتزاع حقوقها المهضومة.