التاريخ: آذار ٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«تنظيم الدولة» إذ يحلّ قبالة أوروبا...- محمد الحدّاد
كتاب هيلاري كلينتون «زمن القرارات الصعبة» لا يخلو من فوائد، منها إبراز الطريقة غير المسؤولة التي يتخذ بموجبها الساسة الغربيون القرارات عندما يتعلّق الأمر بالشرق الأوسط. لكن يبدو أنّ بلدان المنطقة ليست الضحايا الوحيدة لهذا التصرف الأرعن. على الأقلّ، بالنسبة إلى أوروبا، أصبحت العواقب مهدّدة ومفزعة. فعلى بعد ثلاثمئة كيلومتر من سواحل إيطاليا، أصبح تنظيم «داعش» واقعاً قائماً وتحدياً ستواجهه أوروبا لفترة طويلة. ومنذ أسابيع، يعيش الأوروبيون على وقع خوف غير مسبوق، زادته رسوخاً الأحداث الإرهابية في باريس وكوبنهاغن.

كانت السيدة كلينتون قد قصّت في كتابها طريقة بداية العمليات العسكرية ضدّ نظام القذافي، ويتضح أنّ الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قد وضع الجميع أمام الأمر المقضي ولم يفسح المجال لوضع خطة معمّقة للتدخل، وأنه كان في منافسة شبه صبيانية مع رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني حول زعامة العملية. وبحسب وزيرة الخارجية السابقة، لم تعلم هي نفسها بالتدخل الفرنسي إلاّ بعد وقوعه. وإذا أضفنا ما كشفت عنه صحيفة «ميديابارت» الفرنسية من وجود تمويل سابق للحملة الانتخابية لساركوزي من العقيد القذافي، فقد نفهم بعض الأسباب، لا سيما بعد طريقة التخلص من العقيد الذي حمل معه الكثير من الأسرار. وعلى كلّ، فالمهم في هذا قلة المسؤولية في اتخاذ قرارات ذات عواقب بالغة على مستقبل ملايين النساء والرجال والأطفال. فهل كان يمكن تصوّر أن تصبح ليبيا ديموقراطية بمجرّد التخلص من دكتاتورها؟ وهل كانت الدولة ستنشأ من تلقاء ذاتها في بلد لم يعرف تقريباً ظاهرة الدولة في أغلب تاريخه؟ كان المفروض أن يحصل التدخل في إطار خطة شاملة تتواصل سنوات لوضع مسار البناء الجديد على السكة، لا أن يترك البلد يواجه مصيراً أتعس مما كان عليه في العهد الدكتاتوري.

لقد سارعت الولايات المتحدة بالابتعاد عن المشكلة منذ اغتيال سفيرها كريس ستيفنس عام 2012. وللتذكير، فعملية الاغتيال هذه لم تتضح حقائقها إلى اليوم. أما ساركوزي فخسر المعركة الانتخابية ولم يعد له دور، وجاء بعده الاشتراكي فرانسوا هولاند، فوجد مشاكل اقتصادية ضخمة، ولم ير مجدياً أن يفتح على نفسه جبهة خارجية ثانية بعد تدخله العسكري الناجح نسبياً في مالي. وهكذا بقيت إيطاليا وحدها تحذّر من تداعيات الملف الليبي، وكانت تنظر إليه أساساً من جهة الهجرة السرية، لكنّ الصوت الإيطالي لم يحظ بالقوّة والنفوذ، لا سيما مع احتدام الأزمة الأوكرانية، وكذلك التمرّد اليوناني داخل البيت الأوروبي.

والواقع أنّه منذ سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، قامت فكرة الوحدة الأوروبية بديلاً عن نظام الدولة-الأمّة. لقد نجحت الدينامية الأوروبية، بعد نهاية الحرب الباردة، في تفادي عودة أوروبا إلى نزاعاتها القديمة، كالنزاع التاريخي بين ألمانيا وفرنسا، لكنّها لم تحلّ مشاكلها الخارجية، بداية بحرب البلقان. ومذّاك ما فتئت المشاكل الخارجية تتضخّم وتقترب وتهدّد أوروبا. فبالإضافة إلى أزمة البلقان التي لم تحلّ إلى اليوم بصفة نهائيّة، ولم تقدر أوروبا على حلّها بفردها، توالت الأزمات في أوروبا الشرقية، وبرزت مع آخر هذه الأزمات، الأزمة الأوكرانية، بوادر استعادة جدار حديدي جديد يعيد إلى الأذهان وقائع الحرب الباردة. أما من الجنوب، فأصبحت أوروبا مهدّدة بالإرهاب، بعد موجات الهجرة غير الشرعية.

ولا شكّ أنّ هذا الجانب السياسي لا يمكن تحليله في غياب العامل الاقتصادي الذي فوّت على أوروبا أمل العودة إلى دولة الرخاء، كما عاشتها في «الثلاثين سنة السعيدة»، إذا ظلّت عملاقاً اقتصادياً لا يستطيع أن يؤثّر تأثيراً حاسماً في مسار العولمة الاقتصادية الحالية، بما جعل هذا المسار منفلتاً وغير مكترث بالمبادئ التي أرستها فلسفة الأنوار لعالم يسوده العدل والسلام. وقد كشفت الثورات العربية الغياب شبه الكلّي لأوروبا، والدور المحدود لبعض دولها، والتبعية المكشوفة للولايات المتحدة في قضايا لا تبتعد عن أوروبا إلاّ بمئات قليلة من الكيلومترات، كقضية ليبيا. وعليه، فإن الاقتصاد الأوروبي فوّت على نفسه فرصة الاستفادة، في ما لو نجحت الثورات العربية وتقاربت ضفتا المتوسط على أساس قيم متوسطية مشتركة تنبع من تاريخ مشترك ودروس مشتركة، في بناء دول ديموقراطية ذات اقتصاديات مفتوحة.

ففشل الثورات العربية لن يؤدي فحسب إلى مزيد من تهديد أوروبا بالإرهاب والهجرة، بل سيضرب ازدهارها الاقتصادي أيضاً ويعمّق أزماتها السياسية والاجتماعية ويجعلها أضعف تأثيراً في الاقتصاد المعولم ومواجهة أقطابه الجدد.

هكذا، لم تعد الوحدة الأوروبية مرادفاً للسلام والرخاء، بل أفقاً مهدّداً بالمخاطر. وأمام الأزمة الليبية واقتراب «داعش» من حدودها، تدرّج الموقف الأوروبي في ثلاث مراحل، كل منها شبه محكوم بالفشل. ففي مرحلة أولى، سعت أوروبا إلى استدراج الجزائر وبلدان أخرى في المنطقة للقيام بدور مباشر في الأزمة الليبية، لكن أمام الرفض القاطع للجزائر لخوص حرب بالوكالة عن الأوروبيين، بدأت مرحلة ثانية قائمة على الانتظار لما ستسفر عنه عملية «الكرامة» بقيادة اللواء المتعاقد خليفة حفتر، مع تفضيل الاكتفاء بمساندة باهتة له، لما كان يعتري المسؤولين الأوروبيين من شكوك في قدراته على الحسم العسكري. وتعاظم الفتور الأوروبي مع التصرّف المتفرّد للواء حفتر الذي همّش «السياسيين» لصالح العسكريين، فيما كانت أوروبا ترغب في أن يكون حفتر الذراع العسكرية لحركة سياسية «ديموقراطية». وأخيراً، بدأت منذ أسابيع مرحلة ثالثة تتمثل في فتح خطين متوازيين مع الجهتين المتناحرتين، «الكرامة» و»فجر ليبيا»، وحثهما على التقارب والحوار لإنقاذ ليبيا من تمدّد داعش، باعتباره تهديداً مشتركاً بينهما، وتسويق ما أصبح يدعى بالنموذج التونسي القائم على الحوار الوطني والتوافق بين «العلمانيين» و»الإسلاميين» ضدّ مخاطر الإرهاب.

مهما كانت الخطة الأوروبية المعتمدة، فإنها لا يمكن أن تنجح من دون دعم وتدخل الولايات المتحدة، وهنا مربط الفرس. ففيما ترى أوروبا الملف الليبي مستعجلاً، فإنّ الولايات المتحدة لا تضعه في مقدّمة أولوياتها، مقارنة بالملف النووي الإيراني والحرب ضدّ داعش في العراق وسورية. وهذا بالذات ما يزيد من قلق الأوروبيين وخوفهم.