قدم زيغمونت باومان في كتابه الشهير «الحداثة والهولوكوست» (Modernity and the Holocaust) عام 1989، أي سنة صدور كتابه الصادم أطروحة جديدة ومفاجئة عن العلاقة العضوية بين مشروع الحداثة و»الهولوكوست». يُترجم الكتاب للمرة الاولى الى العربية ونقله إليها حجاج أبو جبر ودينا رمضان (مدارات للأبحاث والنشر، 2014). تصفح الكتاب بترجمته العربية الجيدة تتيح مناسبة لمناقشة الموضوع القديم الجديد لكن على ضوء تجربتنا العربية (الإسلاموية) مع «داعش». في كلتا الحالتين: «الحداثة النازية المتطرفة» و»الاسلاموية المتطرفة» هناك نزعة إبادة ممنهجة تقوم على خطابات تأسيسية، وعلى نظرة إستئصالية للآخر، وكذلك على آليات مُبهرة في تنفيذ الجريمة. لكن في الوقت ذاته هناك اختلافات مهمة واساسية تستدعي النقاش وتفتحه على تأملات جديدة، بخاصة في مسألة الإعلام عن الجريمة او محاولة إخفائها. هذه المقاربة (في مقالتين) تناقش عدة أفكار حول التشابه والاختلاف بين الحالتين المذكورتين وتحديداً: هناك اولاً معالم الخطاب التأسيسي والإبادي، ثم التأمل في بشاعة نهج الجرائم الناجمة عن الالتزام بالنظام (والايديولوجيا) والفائضة عن بشاعة تلك الجرائم الناتجة عن كسر النظام أو التمرد على الايديولوجيا، وهناك تموضع «الجريمة والبشاعة» في إطار «ما هو عادي ومقبول» عند افراد وجماعات ومجتمعات بشكل مذهل ومخيف، ويشير الى ان الافراد العاديين قد يتحولون الى مجرمين حقيقيين إذا تهيأ الظرف والسياق، ويرتبط بذلك مسألة البعد او القرب الفيزيائي من الضحية حيث يلعب البعد دوراً أساسياً في جرائم النازية، بينما يلعب القرب الدور الاكبر في الجرائم «الداعشية»، وهكذا.
قبل البدء بالنقاش ثمة ملاحظة تفرض نفسها تتعلق بالترجمة العربية. فإلاشادة التي تنتزعها الترجمة الدقيقة والسلسلة لكتاب باومان لا تنطبق على مقدمة الناشر ولا مقدمة المترجم اللتين فاضتا بالتعميمات غير اللازمة، وكان من الافضل ان تقدم الترجمة كما هي ويُترك للقارىء التأمل والحكم. الناشر يقول لنا إن «الصهيونية ارتكبت جرائم أبشع ضد العرب في فلسطين»، وهذه مقولة لا تخدم لا عرب فلسطين ولا تعزز من حقهم فيها لأنها غير علمية وغير موضوعية. ويختتم الناشر مقدمته بدعاء (موضوعي!) يبتهل فيه الى الله ان يجعل الكتاب «في ميزان حسناتنا وان ينفع به عموم المسلمين»! هل معنى ذلك ان عموم المسيحيين او غير المسلمين من قراء العربية ليس من المهم ان ينتفعوا به؟ والمُترجم بدوره يشير وفي أول سطر من مقدمته الى ان عبدالوهاب المسيري هو «اول من فطن الى اهمية كتاب الحداثة والهولوكوست للمفكر اليهودي المعاصر زيغمونت باومان»، وهذا طبعاً ليس صحيحاً ولا دقيقاً ولا حاجة أصلاً لمثل هذا البذخ في المديح. ويُضاف الى ذلك تعزيز الفكرة الساذجة بتبرئة الذات التاريخية وإحالة الجرائم على «الآخر» الامبريالي، والتاريخ العربي الاسلامي فيه امبرياليته الخاصة به ايضا. على كل حال، لا تنتقص هذه الزوائد من قيمة الترجمة العربية واهميتها والاشارة اليها.
في اطروحته «المتمردة» ينفك باومان من القراءات الغربية للتيار الرئيس لفهم المحرقة والتي اعتبرت تلك الجريمة الإنسانية المهولة نتاجاً حصرياً للعداء التاريخي ضد اليهود في اوروبا. باومان يقول إن جذر «الهولوكوست» يقع في الحداثة نفسها. بعد صدور الكتاب بسنوات قليلة احتفى به الراحل عبدالوهاب المسيري واعتبره فتحاً فكرياً واعتمد عليه كثيراً في كتاباته اللاحقة، وتطرف أيضاً في الاعتماد عليه بكونه «كشف جوهر الحداثة». في زياراته الى لندن في اوائل التسعينات كان يقرظ ذلك الكتاب من دون توقف. واذكر انه في عام 1994 أهديته نسخة من كتاب المناضل الافريقي وولتر رودني «كيف أخرت اوروبا افريقيا» (How Europe Underdeveloped Africa)، وفرح به كثيراً لأنه يعزز نظريته إزاء «جرائم الرجل الابيض».
قبل باومان صدرت مئات الكتب والابحاث التي حاولت فهم المحرقة من ذلك المنظور تحديداً، ومن مناظير اخرى اهمها كيفية قبول الالمان سواء على مستوى الشعب ام النخبة لفكرة إبادة جنس عرقي كامل يعيش بين ظهرانيهم. باومان ذهب في كتابه إلى مكان آخر تماماً وقلب كل المناظير، وإن كان بتطرف لافت انتقد عليه كثيراً، لكن بقيت نظريته ذات فائدة مهمة. عوض ان نوظف السوسيولوجيا ونظريات الحداثة لمحاولة فهم المحرقة ولماذا حدثت وكيف تواطأت الاطراف المختلفة في تنفيذها، قال باومان ان «الهولوكوست» تقدم لنا فرصة لنعيد فهم الحداثة من منظور قدرتها على تهيئة المناخ للإبادات البشرية. اي ان «الهولوكوست» تكشف بشاعة الحداثة على عكس كل القراءات السابقة التي ارادت ان تفهم بشاعة «الهولوكوست» من خلال الحداثة. بالنسبة الى باومان فإن الحداثة تقوم على العقلانية الصارمة والتنظيم الدقيق وبرود التحليل العلمي وأخلاقية التكنولوجيا، وكل ذلك مجموعاً إلى ذاته يحقق غائية وجود الانسان ومصالحه.
في هذا النظام تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مركبة ومدهشة وأبعد بكثير من الفكرة الميكيافيلية التقليدية التي تعلي من قدر الغاية وتبرر في سبيل تحقيقها احقر الوسائل. هنا تصبح الوسيلة نفسها هي الغاية: اي ان مهارة تطبيق الاوامر، وكفاءة التنفيذ (تنفيذ حرق اليهود مثلاً) ومن خلال مراحل تبدأ بالترحيل في القطارات في مواعيد ثابتة، ثم تجميعهم في مرحلة الفحص الطبي، ثم التعرية الكاملة ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية وتصنيفها (ساعات، مجوهرات، ملابس، الخ...)، ثم نقلهم الى غرف الغاز وغسلهم بالماء أولاً، وبعدها تحديد كمية الغاز المطلوبة لكل غرفة، والبدء بالتنفيذ، ثم تجميع الجثث وحرقها، ودفن بقاياها، وهكذا. يقول باومان إن الدقة المذهلة في تنفيذ تلك الخطوات كانت لتدرس في الجامعات في مساقات الإدارة التنفيذية المتفوقة لو لم يكن موضوعها حرق وإبادة الناس. لكن الاهم من ذلك هو انصياع الضباط والجنود لتطبيق تلك المراحل بدقة عالية ومن دون أي إحساس بوخز الضمير. كانت كفاءة تنفيذ الاوامر، أي الوسيلة، هي الهاجس اليومي والروتيني الاكبر لآلاف الجنود والضباط الذين اشرفوا على الابادة، انصياعا لأوامر مرؤوسيهم. هؤلاء «الادوات» هم ناس عاديون لهم زوجات وأبناء ويعيشون حياة عادية وربما «اخلاقية» على مستويات مختلفة، لكن «البيروقراطية الحداثية» تتطلب منهم سلوكاً يلتزم بالزي العسكري الذي فور ان يرتدونه يتحولون الى آلات صماء تنفذ ما يطلب منها من دون مشاعر او احاسيس. باومان يعزو ذلك الى نظام الحداثة وقيمها المادية التي تشتغل وفق مبدأ الفائدة والمصلحة وفقط.
تصبح حياة البشر، تبعاً لذلك، مضبوطة وفق ترتيبات معينة ومحددة ونظام يعين «الفائدة» من الاشياء والقيم... وأصناف الانسان. كل شيء تبهت فائدته ويصبح عديم الجدوى، بما في ذلك بعض اصناف البشر (واليهود في الحالة النازية)، تجب إزاحته (وإزاحتهم)، وهذا مسوغ عقلانياً. الاخلاق والعواطف والاحاسيس لا مكان لها في منظومة قائمة على «تسليع» الاشياء والانسان ايضا. كل شيء أو انسان له قيمة محسوسة وملموسة، إن فقدها لا مبرر لوجوده. هذا التفسير الاقصوي في فهم الحداثة هو ما اعتمده باومان، ورأى انه تجسد في النظرية النازية التي رأت ان اليهود في المانيا واوروبا لاحقاً جنس يشكل عبئاً على التقدم الانساني ويجب ابادته، ومعهم المسلمون والغجر والمعاقون والمرضى المصابون بأمراض عصية و»الشاذون جنسياً» بحسب ما كان يرى هتلر. قائمة الاجناس «غير المفيدة» كانت طويلة على الاجندة الهتلرية، ويتوجب تطهير «الحيز الحيوي» منها حتى يتقدم العالم بقيادة الجنس الآري الذي أثبت علماء الانثروبولوجيا النازية لهتلر انه الجنس الاصفى والارقى في الاجناس البشرية كلها.
* كاتب وأكاديمي عربي |