إذا اقتفينا أثر بشار الأسد، في محاولته الدائبة لإعادة تعريف البديهيات، فسيكون أول ما يتعين علينا بعد العنوان هو تعريف المرحلة العمرية للشيوخ وللشباب. ذلك ليس من باب السخرية فحسب، لكن بشار الأسد نفسه منذ توليه السلطة، لا تزال وسائل إعلام غربية معروفة تصفه بالرئيس الشاب، من دون إشارة إلى السنة الوحيدة التي باتت تفصله عن عمر الخمسين. توني بلير وديفيد كاميرون، على سبيل المثال، لم تركّز وسائل الإعلام على وصفهما بالشابين في أثناء تولّيهما المسؤولية السياسية الأرفع في بلدهما، كما كان يحدث في توصيف بشار الأسد حتى مستهل الثورة. الأسد الأب أيضاً، أنجز انقلابه قبل إتمامه الأربعين ولم تجرِ العادة حينها على وصفه بالرئيس الشاب، أما القذافي فكان دون الثلاثين عندما تسلّم السلطة في ليبيا، وسرعان ما أنسى الناس حداثته في السن ولو من باب طرافته.
في سورية، هناك أفراد تقدموا إلى الفضاء العام، من بوابة السياسة أو الثقافة، ووُصفوا حينها بالشباب، ثم لازمهم الوصف على رغم وصولهم إلى مرحلة الكهولة، وربما تخطّيها. هناك، على الصعيد الأدبي، كتّاب وُصفوا بالجدد، ثم احتكروا الوصف طوال العقدين أو الثلاثة الأخيرة، ما يعني ضمناً عدم تقدّم كتّاب جدد آخرين ينالون منهم اللقب، أو ما يعني غالباً قدرتهم على مصادرة اللقب لأنفسهم ومنعه عن أجيال لاحقة. من جهة أخرى، ستكون القناعة بموقع الصدارة من فئة الشباب، مع تخطّي تلك السن، نوعاً من ترضية على العجز في تكريس الذات ضمن الفضاء العام بصرف النظر عن الفئة العمرية، وقبولاً بالتصنيف «التشجيعي» الذي يُضمر الاستخفاف. مع التذكير دائماً بوصف المجتمعات العربية كمجتمعات شابة، حيث يُفترض بناء عليه وجود الشباب في نسبة معتبرة من الحراك العام، وفق منطق المشاركة الحقيقية لا على قاعدة التسوّل أو التشجيع.
فوجئ المعارضون السوريون، قبل غيرهم، بشباب الثورة السورية مع مستهلها، المفاجأة أتت من العدد الضخم الذي انخرط سريعاً في نشاطات الثورة، ومن الكفاءات التي لم يكن السوريون على دراية بها سابقاً. قسم قليل جداً من أولئك الشباب كان معروفاً من قبل في الوسط الضيق للمعارضة، وكانت لأولئك المعروفين من قبل ميزة على أقرانهم عموماً، متأتية من الفكرة السائدة عن إعراض العموم عن السياسة. في البداية، راجت فكرة أننا أمام «ثورة في العشرين ومعارضة في السبعين»؛ الأجيال الخمسة الغائبة في تلك المقولة كانت في الواقع ضحية تغييب السياسة طوال خمسة عقود من حكم البعث، هي موجودة واقعياً لكن قلّة منها أيضاً موجودة كفاعلية سياسية، ومن المرجح وفق التصنيف السابق أن تلتحق غالبيتها بالمعارضة «السبعينية».
مع صدمة بداية الثورة، راحت المعارضة تتودد إلى الشباب المُكتَشف للتو، وسيتبين بعد وقت قصير أن التودد في غالبيته لا يعدو كونه رشوة لفظية تُقدّم للشباب كي لا ينافسوا شيوخ المعارضة على مواقعهم. الجيل الذي نشأ على العمل السياسي السري أيام الأسد الأب، والذي ظهر نسبياً إلى العلن مع ما سُمّي حينها بربيع دمشق، هو نفسه الذي تصدر هيئات المعارضة منذ بداية الثورة حتى الآن. الدماء الجديدة التي رفدت هيئات المعارضة وجودها شكلي، والصراعات ضمن كل هيئة هي صراعات فردية يقودها الشيوخ، إما امتداداً لصراعاتهم التنظيمية السابقة على الثورة أو في صراع مستجد على النفوذ الحالي ووهم السلطة القادمة.
مع ذلك، النفاق وحده لا يفسّر التودد العارض الذي أبداه الشيوخ إزاء الشباب، وربما من الأصح ردُّ معظمه إلى «نزوة ثورية» عابرة، عاد بعدها الشيوخ إلى ممارسة ما اعتادوا عليه. وإذا بقي بعضهم على التودد اللفظي إلى «شباب الثورة»، فبعضهم الآخر لم يعد يخفي تململه منهم، بل حتى تعاليه عليهم بوصفهم الشارع الذي لا يدرك مصلحته السياسية مثلما يدركها ذوو الخبرة المديدة في التعاطي مع النظام القمعي. الأمر لا يقتصر دائماً على الشباب؛ القادمون الجدد إلى تنظيمات المعارضة، بصرف النظر عن الفئة العمرية، ظلوا هامشيين ومهمّشين قياساً إلى الشيوخ الراسخين فيها وتكتيكاتهم التي لا تخيب. باستثناء المقاتلين وقلة يتضاءل عددها مع الوقت، توزّع الشباب في بلدان الشتات، والحق أنهم لم يلقوا رعاية سوى من بعض المنظمات الدولية التي لم تكن أياديها بيضاء طوال الوقت، وساهم بعضها «ولو عن حسن نية» في تنمية النوازع الانتهازية لدى شبان خرجوا للتو من معطف فساد مؤسسات النظام. على هذا الصعيد، كانت مفاجأة سارة، وفشلاً ذريعاً للنظام، أن ينقلب جيل تربى منذ طفولته الأولى في مؤسسات النظام التربوية والتعليمية وبقية مؤسساته الفاسدة، على مجمل تربيته، في توق إلى بديل نظيف. الفشل الذي لا يقل خطورة، هو فشل هيئات المعارضة في تقديم البديل النظيف، إن لجهة الابتعاد عن شبهات الفساد، أو لجهة طرح برنامج سياسي وأطر عمل يستوعبان تطلعات الشباب. في المحصلة، كل ما يُقال عن دور سلبي لمنظمات الـ»إن جي أوز» هو في الفراغ الذي تسببت به المعارضة.
بتعبير مجازي، أكلت المعارضة الثورة عندما التهم شيوخها شبابها. وفي ظل ظروف دولية غير مواتية، لم تراهن المعارضة على العمل السياسي ضمن صفوف الثورة نفسها، أي وقفت عائقاً أمام الحراك الثوري الداخلي. لذا سيكون من حسن الطوية لدى أحد ممّن لا يزالون يُحسبون على الجيل الشاب، براء موسى في مقاله المنشور في «الحياة» في 12/2/2015 «طاقات الشباب المهدورة في المعارضة السورية»، أن يبدو كأنه يطالب المعارضة برعاية الكفاءات الشابة. قد يكون مفيداً هنا التذكير بما يردده بعض النشطاء من أن حافظ الأسد لا يزال يحكم من قبره. استطراداً، لا يزال معارضو حافظ الأسد يتحكمون بالمعارضة أيضاً.
كان مُنتَظراً، على غرار تجارب مماثلة، شعور شباب الثورة بالتهميش بعد انتصارها والاستيلاء على ثمارها من جانب قوى أكثر رسوخاً وتقليدية. ما حدث في سورية أمرّ، لأن شيوخ المعارضة ضاق صدرهم سريعاً ولم تنضج الثمار، لذا باشروا بالتهام الأغصان. |