التاريخ: شباط ٢٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مقالات من هي مافيا متحف الموصل؟ - جهاد الزين
لماذا نشكّك في علاقة دولٍ وجهاتٍ بـ"داعش" ونستثني عملاً من نوع العبث بمتحف الموصل دون أن نشكِّك أيضا بالأهداف "التجارية" السياسيّة الثقافيّة وراءه؟

كيف نتأكّد من أن ما رأيناه في المشاهد المصوّرة التي وزّعَتْها "داعش" عن تدمير تماثيل عمرها آلاف السنين من متحف الموصل هي وقائع مكتملة ولا تخفي معها وراء صدمة التدمير المرعب أسراراً مافياويّة وربما دولتيّة في تهريب الآثار والمتاجرة بها بحيث تصل التحف أو بعضها إلى جهات يمكن أن تخفيها جيلاً كاملاً قبل أن تظهر في متاحف كبرى؟!

منذ اجتياح متحف بغداد في اللحظات الأولى لسقوط العاصمة العراقية في نيسان 2003 كتبتُ مراراً أن التجربة أظهرت تلازم سقوط الدولة مع سقوط المتحف وأن انهيار هذه الثنائيّة يعني كون المتحف عنواناً رئيسيّاً للشخصيّة الوطنية وبالتالي هو عنوان لسقوط البلد نفسه. في بغداد جعل سقوطُ المتحفِ من الأحداث "مؤامرةً حضاريّةً" (ولن أعتذر هذه المرة عن الكلام الكبير!) أو بكلام أبسط لم يعد ممكنا النظر إلى الانهيار العراقي بعد نهب الكثير من محتويات متحف بغداد من دون اعتباره مؤامرة كاملة. فكيف نتجاهل الرمزية المدهشة لتلازم الانهيار السياسي العسكري مع انهيار المتحف؟ انهيار المتحف باعتباره النتيجة "النهائيّة" لمسار دفعه نظام حكم متوحّش كنظام صدّام حسين إلى هذا المآل.

هكذا كدنا نصطدم بالموقف نفسه في القاهرة لولا وعيُ الدولة والنخبة المصريّتين واستدراكُهما السريع لمحاولة "غزو" ونهب المتحف المصري الملاصق لميدان التحرير في تلك الأيام الرائعة لثورة 25 يناير والتي كادت تحوِّلها محاولةُ نهبِ متحف القاهرة من عرٌسٍ إلى مأتم؟ هذا دون أن ننسى- ولنْ ننسى- الحريق الذي تعرّضت له دار الأرشيف المصري لاحقاً وخسارة وثائق لا تُعَوّض.

بات من الواضح في سوريا أن تجارة الآثار- التي تختلط بوقائع وروايات التدمير- هي تجارة مزدهرة بدأتْ بعد فترةٍ وجيزةٍ من عسكرة الثورة السورية التي لا يتحمّل مسؤوليّتها النظام وحده، بعدما كان قبل العسكرة وحده مسؤولاً عن القمع. من سرق ماذا من متحف الموصل وراء التدمير المتلفَز؟ وهل جميع التماثيل أصليّة ولم يكن بعضها مقلَّداً كما كان يحصل أحيانا في عهد صدام حسين؟ ومن هي المافيات المتصلة بالدول التي لعبت خلف الستار لتهريب ما لن نعرف إلا بعد سنواتٍ أين هو؟ وقد يظهر في معارض كبرى تحت شعار أنّه تمّ إنقاذه وسنذهب جميعنا - أي من بقي منا على قيد الحياة حينها - لمشاهدته كحدث ثقافي...

كل هذا الآن "سابقٌ لأوانه" فيما تدوّي مشاهد العار في الأفلام المصوّرة الآتية من الموصل الشهيدة... وتلطِّخ كراماتنا الدينية والثقافية والسياسيّة والحياتيّة التي لم يبقَ منها الكثير أمام هول انحطاطنا العميق وقواه المشبوهة الأهداف فيما لا يزال البيت الأبيض يتعامل مع المسؤولين عمليّاً إن لم يكن عن "داعش" مباشرةً فعن "الداعشية" التي تملأ فضاءنا السياسيَّ والأمنيَّ منذ سيطرة الأصولية الإسلامية على حياتنا العامة في العقود الثلاثة الأخيرة.

إذا كان من الثابت أن بيروت هي إحدى المدن الأساسية لازدهار تجارة الآثار الآتية من سوريا والعراق، وهذا ما نقلَته مراراً فلماذا لا تكون بالمقابل مدينة الاحتجاج الثقافي على هذا الوضع الانهياري الذي لن يبقى بعده الكثير في المنطقة فيما يجري تدمير لا سابق له لمدنها وأريافها في العراق وسوريا؟

يسأل ابن هذه المنطقة نفسه أمام هذا المزيج من العجز والصمت معا الذي تنخرط فيه بأشكال مختلفة بعضُ نخبته: هل نحن ضحايا أم متواطِئون؟ طالبت مديرة منظمة اليونسكو بدعوة مجلس الأمن لبحث نكبة تدمير إرث متحف الموصل. لكن "لعبة الأمم" من الأرجح أن تتواصل غير عابئةٍ فعلاً بما تفعله هذه الوحوش الأصوليّة. فالاحتجاج الدولي الذي قد يصدر بعد هذه الدعوة أو غيرها ولا يغيِّر سياساتٍ هو احتجاجٌ خبيث.

بين متحفي بغداد والموصل مات العراق مرّاتٍ عديدة. أما سوريا... بين تدمير أسواق حلب مرورا بتدمير تمثال أبي العلاء المعرّي وقبور الأولياء وتدمير وسرقة ما لا نعرف حتى الآن... هذه السوريا لا تزال تموت كل يوم...

الثيران المجنّحة... الملوك الآلهة... أي حضارة متقدّمة تحطِّمها هذه الحثالات.