ودّع التونسيون عاماً واستقبلوا آخر، ما بين ناقم على ما فات ومتخوف مما هو آت. تزامن ذلك مع تسلّم الرئيس الجديد، الباجي قايد السبسي، مقاليد رئاسة الجمهورية في أول انتخابات تعددية حرة تشهدها البلاد منذ استقلالها. وعلى الرغم من أن المنصب يكاد يكون فخرياً، فإن رمزية الأمر في سياق تونسي محض جعلت من صعود السبسي عودة مكتملة للنظام القديم. وقد تزامن توليه الرئاسة مع قرار رئيس إيطاليا، نابوليتانو، تقديم استقالته عن سن تناهز 89 عاماً، في الأيام القليلة المقبلة، وكذلك رحيل رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، عمر كرامي، عن سن تناهز 80 عاماً. أطال الله عمر السيد الرئيس. غير أن البيولوجيا قدرنا، ولا عيب أن نقر بأن الجسد في مثل ذلك العمر لا يجاري الإرادة، حتى وإن كانت سليمة. فما بالك والبلاد تمر بامتحان عسير، سيحدد مصير أجيال بأكملها، فضلاً عن آمال شعوب كثيرة، أبصارها شاخصة عما يحدث على أرضنا.
لم يتعظ التونسيون من العمر المتقدم للرؤساء، وقد لدغوا منه في أكثر من مناسبة. قد يكون بعضهم هواة لدغ. وحين نثير هذا العامل، لا نطعن في الشرعية. ولكن، كما في الديمقراطية الحديثة، فإن ذلك الإقرار لا يسحب منا حق قراءة السلوك الانتخابي كما نشاء، واستشراف المآلات التي نعتقد أن ذلك الفوز سيؤدي إليها. سمعنا، في الأيام الأخيرة، تحرشاً متنامياً بمن يسعى إلى تفسير السلوك الانتخابي، أو يتوقع المآلات التي يمكن أن تنجم عن تلك الخيارات. هناك خلط متعمد بين التسليم بالشرعية، أو فهم السلوك الانتخابي، أو حتى نقده. علينا أن نفك الارتباط الواهم بين شرعية النتيجة وعصمة الخيار الانتخابي.
التخوف من المآلات الناجمة عن اختيار انتخابي ما، بغض النظر عن طبيعة الفائز، مشروع في كل الديمقراطيات، وهو، اليوم، أكثر شرعية ووجاهة في انتقال ديمقراطي هش، تسلم مفاتيح إدارة مراحله القادمة إلى بقايا نظام قديم، هجن بنكهة سارية تم تجريبها سابقاً. الاعتقالات التي طالت المدون ياسين العياري، ابن الشهيد العقيد الطاهر العياري (من أولى ضحايا المؤسسة العسكرية في معركة الإرهاب)، والمخرجة الشابة اليسارية، إيناس بن عثمان، ناهيك عما حبرته وسائل الإعلام، ولهج به إعلاميون في الإذاعات والتلفزات من هجومات شرسة، في الأيام القليلة الماضية، على سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، المؤتمنة على إنجاز العدالة الانتقالية، وقائع تجعلنا ندلف إلى السنة الجديدة بخوف وتوجس كثيرين.
ينتابني شعور بأن هناك رغبة في تظليل المشهد المقبل، وجعل السنة الجديدة سنة أرقام اقتصادية فحسب. إذ يتم التركيز على أن 2015 ستكون أصعب السنوات المقبلة، لتزامنها مع ذروة تسديد الديون التي على تونس الالتزام بها. لا يتعلق الأمر بتضحيات علينا أن نستعد لها ونقبلها، بل يتم اختزال انتظارات التونسيين عمداً في المجال الاقتصادي فحسب. من شأن "في السياق التونسي تظل المشاركة الانتخابية المؤشر الوحيد والعنوان الأبرز لمشاركة الشباب في الشأن السياسي، باعتباره شاناً عاماً"
الإفراط في التركيز على ذلك إتلاف الاستحقاقات الأخرى ذات البعد السياسي، كالعدالة الانتقالية، معرفة الحقيقة، احترام الدستور وترسيخ دولة القانون، ناهيك عن الحريات العامة.. إلخ.
الانتقالات الديمقراطية الناجحة سارت عل ساقين، حتى وإن ارتبكت الخطوات، فذلك شرط لأي نجاح، من بولونيا إلى الأرجنتين. اقتضى الانتقال ترسيخ الحريات وتحسين معاش الناس. هذان المسلكان يفتحان أبواب المشاركة السياسية الواسعة التي تضمن عدم الانتكاس. وعلينا ألا ننسى في غمرة احتفالاتنا المتعددة، وسكرة الانتصارات العابرة، أن بلادنا، بكل نخبها وأحزابها ومجتمعها المدني، فشلت في دمج ما يناهز ثلثي الناخبين، منهم فئات شبابية مهمة، ظلت على الرغم من كل الجهود المضنية خارج المشاركة الانتخابية. يهون بعضهم من هذه الحقيقة، حين يذكّرنا بعدم الخلط بين المشاركة الانتخابية والمشاركة السياسية. إنه تنبيه مهم، ولكن في السياق التونسي تظل المشاركة الانتخابية المؤشر الوحيد والعنوان الأبرز لمشاركة الشباب في الشأن السياسي، باعتباره شاناً عاماً. لسنا بصدد سرد الأسباب التي تعددت، والتي ذكرنا، في أكثر من مرة. ولكن، علينا أن ننتبه إلى المآلات المحدقة، لو ظل هذا الحال قائماً. سيأكل ذئب الإرهاب من الشباب القاصي، أي الذين ظلوا خارج المشاركة بجميع أنماطها، وأهمها المشاركة الاقتصادية من خلال معبر العمل، والمشاركة السياسية من خلال الصندوق. حالياً، هناك مجتمع آخر، عجزنا عن شده، وهو بصدد الانفصال التدريجي عنا، بغض النظر عن اختلافاتنا الداخلية.
لدي خشية متنامية من أن هذا الاختزال المتعمد لانتظارات الناس من سنة 2015 لن يكون سوى مقدمات نفسية بيداغوجية، لبدء هندسة ماكرة لمرحلة الانتقال الديمقراطي المقبلة: تحقيق حالة من الرخاء الاقتصادي، حتى ولو كانت مغشوشة، يتحسن بمقتضاها مستوى عيش الطبقة الوسطى، وحتى بعض الفئات الشعبية التي تضررت في السنوات الفارطة. سيؤدي هذا، بلا شك، إلى توسيع القاعدة الشعبية للحزب الحاكم، واستدامة المرحلة عبر الصناديق نفسها، حتى تعاد كتابة التاريخ وصياغة الذاكرة. المانحون على أهبة الاستعداد، ولكن لهم شرط وحيد، هو طي صفحة "الانتقال الديمقراطي"، في استحقاقاته السياسية خصوصا، للإجهاز على أبعاده المواطنية الأخرى فيما بعد. تفاصيل صغيرة ليست ذات بال، مثل موقع الإسلام السياسي، حتى نسخه الأكثر اعتدالاً، يتم التدقيق فيها لاحقاً.
المشهد الذي يتم ترتيبه سيحصر حرية التعبير في "ثرثرات إعلامية" ممنهجة مع استهداف مناضلين ظلوا يشكلون جيوب ممانعة، لو خاضوا في المحظور الذي سيتسع، لا قدر الله. إفراغ تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس من أبعادها السياسية والمواطنية، والتعويم الفوقي باسم "التوافقات" فوق رؤوس الناس، والتدخل الأجنبي السافر المالي في سياق غير مسبوق من ضعف السيادة الوطنية، وقبول مزيد من التنازل عنها، هي ما سيرسم للأسف ما بدأ بعضهم ترديده "خصوصية تونسية" في ما سيؤول إليه أمر الانتقال الديمقراطي في بلادنا. الاقتصاد السياسي للانتظارات حري بأن نسائله.
المهدي مبروك وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي. |