أصدرت السلطات اللبنانية قراراً يقضي بضرورة استحصال أي مواطن سوري على تأشيرة لدخول الأراضي اللبنانية. وأول ما يتبادر للمرء حين يسمع بذلك أن الحكومة اللبنانية قررت اعتبار أكثر من مليون لاجئ سوري نزحوا إلى لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة مقيمين غير شرعيين في لبنان.
لطالما تعاملت السلطات اللبنانية مع اللاجئين السوريين بصفتهم قدموا بإرادتهم إلى لبنان. كما أن جزءاً من الرأي العام اللبناني ليس بعيداً عن هذه الوجهة وعما تمليه من تعامل ومشاعر وميول. كما تم استبعاد مسألة جوهرية في قضية اللاجئين السوريين إلى لبنان، سواء في نقاش اللبنانيين لها أم في النقاش اللبناني السوري على مختلف مستوياته، وتتمثل في أن طرفاً لبنانياً أساسياً ومشاركاً في السلطة، إذا لم نقل أنه السلطة كلها، هو حزب الله، شارك على نحو مباشر وأكيد في إخراج هؤلاء النازحين من مدنهم وقراهم ومنازلهم في سورية. وهذا الأمر تم على نحو مباشر. فمثلاً لا حصراً، في بلدة عرسال يُشكل أبناء بلدتي القصير ويبرود السوريتين نحو 80 في المئة من اللاجئين في البلدة والذين يبلغ عددهم نحو 130 ألف لاجئ. وحزب الله هو من استولى على هاتين البلدتين ومن تسبب بنزوح أهلهما. القرار اللبناني لا أثر فيه لكلمة «لاجئ»، فهو يُحدد التعامل مع القادمين السوريين إلى لبنان السياح منهم والتجار والعابرين إلى المطار، أما من تبقى من القادمين فيشترط عليهم القرار إيجاد «كفيل لبناني». ومن المفترض أن الصنف الأخير من القادمين السوريين هم اللاجئون قسراً بسبب الحرب الدائرة في بلداتهم ومدنهم ومناطقهم. ولبنان الذي لم يسمّهم لاجئين لا يريد أن يعترف بمحنتهم. هم قادمون لأسباب يجهلها، وعلى كل سوري أن يأتي بلبناني لكي يشهد أن في بلد «مكفوله» حرباً، وأنه مهدد بالموت هناك. ولبنان الذي لم يسمهم لاجئين إنما فعل ذلك على نحو ما فعلت السلطات في بلدهم، حيث لا حرب تخوضها ضد مواطنيها، وحيث الأمر يقتصر على «بعض العصابات المسلحة». ولتعامي السلطات في سورية وظيفة في الحرب التي تخوضها تلك السلطات على مواطنيها، أما التعامي اللبناني فمزيج من تبنِ للموقف الرسمي السوري ومن طائفية ومن قصور.
والحال أن القرار اللبناني الغامض والمستحيل التطبيق جاء أيضاً امتداداً لاحتقانٍ بدأنا نلمسه على أكثر من صعيد في لبنان، ولن يؤدي هذا القرار إلا إلى مزيد منه. فالدولة العاجزة عن إدارة ملف صغير بحجم براد استيراد السلع في مطار بيروت، لن تتمكن من دون شك من إدارة ملف هائل ومعقد بحجم وصول أكثر من مليون لاجئ سوري إلى لبنان يُشكلون أكثر من ربع عدد السكان.
وعلى رغم كل ما يُثار حول «عنصرية لبنانية» حيال اللاجئين، على ما في هذا القول من تبسيط وانعدام معرفة ومواقف مسبقة من التجربة اللبنانية، تبدو الدولة سابقة مجتمعاتها في حقن المشاعر وفي بث الكراهية. فحتى الآن ما زالت ردود أفعال المجتمعات اللبنانية المُستقبلة للاجئين السوريين على ظاهرة اللجوء في حدود الضبط والإدارة، إذا ما قسنا الأفعال في حدود حجم الظاهرة. ذاك أن أي مجتمع في العالم يشهد ظاهرة انقلاب ديموغرافي بالحجم الذي شهده لبنان في السنوات الأربع الفائتة، أي استقبال أكثر من ربع عدد سكانه، كان سيشهد أكثر مما شهده لبنان من اضطرابات مرتبطة بهذا الحدث. فما بالك أننا في بلد تستيقظ فيه الطوائف كل صباح لتحصي عدد أفرادها، وتنتظر ولادات من بطون صارت مقلة في الإنجاب.
وبهذا المعنى يبدو أن «المجتمع اللبناني» (إذا ضرب القارئ صفحاً عن تسميته مجتمعاً) أكثر تقدماً من دولته في التعامل مع مسألة اللاجئين. يمكن الجزم بهذا الاعتقاد في السنوات الثلاث الأولى من بدء تراكم ظاهرة اللجوء السوري. لكننا في السنة الأخيرة بدأنا نلمس شيئاً مختلفاً من دون شك، فنحن نتحدث عن أكثر من ربع عدد السكان، وترافق قدومهم مع عدم الاعتراف بهم كلاجئين ورفض إقامة مخيمات تأويهم وقصور كبير في إغاثتهم، كما ترافق مع احتقان طائفي لبناني لبناني، ولبناني سوري، وكل هذه العوامل حولت اللاجئين السوريين في الوعي اللبناني إلى لاجئين سلبيين، بحيث تشعر شرائح كبيرة من الشغيلة اللبنانيين بمنافسة نظرائهم السوريين لهم، فيما تُلح الحاجة وغياب الرعاية الرسمية والأممية على اللاجئ لأن يطرق أبواب العمل.
ودخلت «داعش» بثقلها على هذا الملف المعقد أصلاً، فجاء اختطاف الجنود اللبنانيين ليُغذي المشاعر السلبية، ورقص الخاطفون، بفيديواتهم التي راحوا يرسلونها عن الجنود الأسرى، على مستقبل اللاجئين وعلى مصائرهم، فيما راحت السلطات اللبنانية تُمعن في غبائها وفي تبعيتها لحزب الله وللنظام في سورية، فتُفصّل القوانين وفق مصالح حلفائها السريين في دمشق وفي حارة حريك.
من جهة لا يبدو أن ركن «المشاعر اللبنانية» حيال اللاجئين هو أن ثمة مسؤولاً يقيم في دمشق هو من أقدم على تهجير مواطنيه من مدنهم ومنازلهم، وساعده في هذه المهمة طرف لبناني ممثل في الحكومة وفي مجلس النواب. ومن جهة أخرى لا يريد الناشطون السوريون، مستعجلو وصم اللبنانيين بالعنصرية، أن يُسجلوا سابقة أن لبنان شهد أكبر ظاهرة لجوء في العالم (أكثر من 25 في المئة من عدد سكانه)، وأن دولاً قوية ومتماسكة مثل إسرائيل تغيرت على نحو جوهري وسلبي عندما شهدت «هجرة إيجابية» (الروس والفلاشا)، فما بالك إذا شهد بلد ضعيف التماسك ومتصدع الوطنية ومنهك الاقتصاد ظاهرة أكبر.
على كل هذا المشهد المعقد أجابت الحكومة اللبنانية بقرار مُعزز للاحتقان، وهي إذ تبدو قاصرة عن تنفيذه، ستكون أيضاً مسؤولة عن نتائجه، ذاك أن وضع حدٍ للجوء السوري إلى لبنان لن يتحقق من دون أن يكف النظام في سورية عن قصف هؤلاء. لن يتمكن أحد من منع هاربين من القصف من أن يجدوا مكاناً آمناً يأوون إليه. وخلاف ذلك سيكون مشاركة في قتلهم. |