التاريخ: كانون ثاني ٤, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
في لاأخلاقية هذه الحرب على داعش! - عمر قدور
تتساءل سيدة على صفحتها على فايسبوك عما ألمّ بنا حتى نبتهج بمقتل إرهابيي داعش بغارات التحالف! السيدة، منعاً للظنون، علمانية ومن غير المحتمل تعاطفها سياسياً مع أيديولوجيا التنظيم، وهي كما يتضح تتجاوز ذلك القلق العام المـتعلق بسقوط ضحايا مدنيين جراء القــصف. إنها بتساؤلها تذهب إلى الصميم، حيث لا يُستبعد أن نتساوى مع جزاري داعش إذ نحتفي بمقتل عناصر التنظيم، هكذا على العموم وبما يجسده القصف الجوي من عشوائية، فيصبح تفكيرنا وانفعالنا جزءاً من آلية الحرب بدل أن يكونا مدفوعَيْن باستحقاقات العدالة وموجباتها.

قد يُواجه تساؤل السيدة بتساؤل من قبيل: وهل يمتلك داعش أدنى اعتبار أخلاقي ليُكافأ بمثله؟ هذا سؤال، وإن حمل «مشروعية» المساواة، ينضوي ضمن منطق الحرب، فضلاً عن مساواته بين دول راسخة تزعم تحكيم القانون الدولي في معاملاتها وتنظيم خارج على القانون الدولي تماماً، تنظيم يجهر أيديولوجياً بعدم انتمائه إلى ثقافة العصر ويسعى إلى الانقلاب الكلي عليها. بهذا المعنى، سيكون من المنطق أيضاً التساؤل عن مدى نجاح التنظيم في فرض ثقافته، واستدراجه خصومه إلى ما قبل القانون الدولي.

في 2011، على رغم تبنيه صراحة هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، ثار جدل حقــوقي حول مشروعية قتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن. مصدر الاعتراضات يومها هو ما إذا كان منفّذو عملية الاغتيال لم يبـــالوا بإمكانية القبض عليه حياً والإتيان بـه إلى المحاكمة. قبل ذلك، على رغم الانتـــقادات العديدة التي وُجهت إلى إدارة بـــوش في حربها على الإرهاب، كانت تلك الحـــرب لا تتقنع بدعوى الحرب «النظيفة»، لا علــــى الصعيد الأيديولوجي للمحافظين الجـــدد، ولا على الصعيد الإجرائي من خلال التدخــــل العسكري في أفغانستان والعراق. مـــع ذلك، كانت ثمة سجون ومعتقلات، حتى إذا شهدت أنواعاً متنوعة من الانتهاكات، وكانت ثمة نية معلنة في جلب الجناة إلى المحاكم، ورُصدت مكافآت مالية ضخمة لمن يساعد في القبض عليهم. أقله لم تكن النية المعلنة هي الإبادة التامة فحسب، ولم تكن الإستراتيجية، كما هي الحالية، عدم المغامرة والتضحية بأي عنصر بشري ولو استدعى ذلك مزيداً من الوقت ومزيداً من القتل لعناصر قد لا يكون لهم شأن كبير في التنظيم الإرهابي؛ الحديث عن الضحايا الأبرياء يكاد يغيب تماماً هذه المرة.

يقلّل من أخلاقية هذه الحرب على داعش مجيئها بعد فشل سابقتها، حيث يتبين عدم الاستفادة من «أخطاء» التجربة السابقة، بل حتى الإصرار على بعض الأخطاء لحساب عدم التضحية بالعنصر البشري وعدم التضحية بأي جزء من السياسات العامة التي ساعدت على نمو الإرهاب. بل، بخلاف سابقتها، تتميز الحرب الحالية بانتقائية معلنة وصارخة، مفادها التركيز على هزيمة التنظيم في العراق على الصعيدين العسكري والسياسي، وعدم الاكتراث إطلاقاً بالشق السياسي لمحاربته في سورية. وكما هو معلوم تُرك التنظيم ليكبر ويشتد في سورية تحت أسماع وأبصار المخابرات الدولية، ولو لم يقم بمغامرته العراقية وبقتل الرهائن الأجانب لما تحركت الإدارة الأميركية إطلاقاً. المقارنة مع الأسبقية «الداعشية» لنظام الأسد لا محل لها لدى منظري هذه الحرب، ولا يخفى عند ورودها لدى بعضهم الانحياز للنظام بوصفه إرهاباً مقبولاً.

واحدة من الذرائع التي تسوِّق للحرب أن الدول قاطبة لا تتدخل إلا عندما تتعرض مصالحها للخطر، وهذه أيضاً ذريعة تنعدم أخلاقيتها من حيث إقامتها لتفاضل صارخ بين مصالح الدول بموجب قوتها. فأفضلية المصالح والسياسات الأميركية في الحلف الحالي لا يستبعد أن تكون على حساب مصالح بعض الحلفاء. الأهم أن تسويق ذريعة المصالح كحجة سياسية دائمة ينأى عن الاعتبارين الأخلاقي والحقوقي معاً، إذ بات مفهوماً منذ إنشاء الأمم المتحدة تنامي الواجبات المناطة بالقوى العظمى، عطفاً على مراعاة مصالحها، وهذا هو الفحوى القانوني والأخلاقي لطي حقبة الاستعمار التي انتهت بالحرب العالمية الثانية. الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين مع مراعاة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ليس منّة من أية قوة عظمى، بل هو واجبها بموجب القانون الدولي نفسه، أكثر من ذلك هو واجبها القانوني بمقتضى الامتيازات الممنوحة لها كقوة عظمى.

الطرح الأخلاقي لا يرتكز على المثالية أو السذاجة فيدفع إلى المناداة بسياسة أخلاقية تماماً، هو طرح في صلب ثقافة العصر التي تزعم دول الدفاع عنها، لأنه أصلاً في صلب القوانين الدولية، ومثلما لا ينسب واضعو القوانين لها العدالة المطلقة فهي في الوقت ذاته الحد الأدنى المقبول أخلاقياً من الممارسات السياسية. على صعيد متصل، النظر إلى القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بالحروب كوسيلة لتنظيم الاشتباك هو عتبة متدنية من الفهم الحقوقي، لأن ما تبتغيه القوانين في جوهرها هو تعميم ثقافة تصل إلى منع الحرب لا الاكتفاء بالتقليل من وحشيتها. محاكمة تنظيمات أو أنظمة إرهابية لا تدخل في حيز القصاص فقط، لأن المحاكمات وحدها تحدّ من النزوع الثأري وتُخرج الضحايا من دائرة الانتقام، أي أنها واحدة من الأدوات المستدامة لمكافحة الإرهاب عموماً. ثم إن المحاكمات وحدها التي قد تتيح معرفة الحقائق للعموم، بما فيها وفي مقدمها الحقائق القذرة للسياسة، ما يجعل منها أداة ردع مستقبلية لهذا النوع من الممارسات.

بالعودة إلى تساؤل السيدة، نحن نخسر من رصيدنا الأخلاقي حتى عندما نهلل لمقتل مجرمين قد يستحق بعضهم الإعدام أو السجن بموجب القانون، ومردّ خسارتنا إدراكنا قدرة القوى العظمى القائدة للحرب على تنفيذ عمليات استخباراتية دقيقة لكنها تستبدلها بعمليات أقل كلفة لها، وإذ نهلل لعمليات أرخص كلفة لا ننتبه إلى كلفتها النفسية علينا، ولا إلى الانتصار المعنوي الذي يحققه داعش عندما نتشفّى بمقتل عناصره من دون تمييز. دعونا لا نصير مثلهم، هذه هي العبارة الشهيرة لمناهضي عقوبة الإعدام، وربما يصحّ التذكير بها مع ملابسات الحرب الحالية لتذكير أنفسنا أولاً بأننا لسنا داعش، ولن نسمح لهذه الحرب بأن تجعل انفعالاتنا جزءاً منه.