قايض اتفاق الطائف إنهاء الحروب الأهلية العروبية في لبنان، بتحويله محميّة يديرها جهازٌ أمني، ويصرِّف فيها شؤون الحكم والقضاء والإدارة بالترهيب والترغيب والشقاق الأهلي. لكن لبنان كان قد بدأ يتعرَّب أثناء الحرب، تلبية للحاجة الفلسطينية أولاً، والسورية الأسدية تالياً. الحاجتان هاتان استعملتا مطالبة المسلمين اللبنانيين بالمشاركة في الحكم وتحسين موقعهم في الدولة اللبنانية، مطيّةً للحرب في لبنان وعليه، فتسلطت الجماعات الأهلية على الدولة وقوّضت أركانها، وتحوّلت جماعات حربية متناحرة. ومن رحم احتلالين للبنان، سوري واسرائيلي، ولد حزب إلهي طائفي وتوتاليتاري مسلح، فورث السياسات العروبية الملبننة، وحوّل لبنان المنهك والمتحلل قاعدة حربية جهادية لأحلام أمبراطوية في المشرق كله، تاركاً لسواه التلهي بالكلام على الدساتير والقوانين والدول والحدود الوطنية.
بعد حروب أهلية - إقليمية دمرت لبنان ومزقته، ودامت جولاتها الكثيرة المتناسلة والمتفاوتة زمناً وعنفاً، زهاء 15 سنة (1975 - 1989)، أُمِرَ النواب اللبنانيون، أو ما تبقى منهم حياً منذ انتخابهم في العام 1972، بعقد مؤتمر لهم في مدينة الطائف السعودية، بناء على مقررات مؤتمر للقمة العربية انعقد في الدار البيضاء المغربية في أيار 1989، وخُصّص لـ"حلّ الأزمة اللبنانية"، وانبثقت منه "لجنة عربية عليا"، أعضاؤها وزراء الخارجية في كلٍّ من السعودية والجزائر والمغرب، لإجراء اتصالات تهدف إلى تنفيذ مقررات القمة.
بناء على اتصالات اللجنة العربية الثلاثية ومشاوراتها مع الزعماء اللبنانيين وقادة الميليشيات المتحاربة والقيادة السورية، وُضعت مسوّدة ما سمِّيت "وثيقة الوفاق الوطني" في لبنان، ودُعي النواب اللبنانيون إلى مناقشاتها وإقرارها في مؤتمر الطائف، مع العلم أن مجلس النواب اللبناني كان دوره التشريعي والدستوري يقتصر على الحد الأدنى الروتيني والشكلي في تسيير الشؤون التي تحتاج إلى إلتئامه، في بلد تقوّضت مؤسساته الدستورية وانقسمت، وتشظّت مناطقة وجماعاته، وتحوّل أعضاء برلمانه المزمنين مشاهدين هامشيين لما يجري في البلاد منذ بدايات الحرب. أما الدور المفاجئ الذي أُنيط بالنواب، بناءً على مقررات القمة العربية، فكان لا يتجاوز إعطاء "وثيقة الوفاق الوطني" المعدّة بنودها مسبقاً في الكواليس الإقليمية، صبغةً دستورية.
جحيم الثمانينات عشية مؤتمر الطائف كان حصاد الحروب الملبننة قد صار ثقيلاً إلى حد الإنهيار الشامل للدولة والمجتمع، فيما أصاب الإنهاك أطراف الحرب اللبنانيين، وانهارت القيمة الشرائية للعملة اللبنانية إلى حضيض مدمر على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. أما الخسائر البشرية للحرب، فكانت تقترب إلى نحو 150 ألف قتيل، وضعفهم من الجرحى، إضافة إلى نحو 18 ألفاً من المخطوفين المختفين. هذا فيما بلغ عدد المهجّرين في داخل لبنان، والمهاجرين إلى خارجه، مئات الألوف، في بلد لم يكن عدد سكانه التقريبي يتجاوز مليوني نسمة حين بدأت الحرب.
نضيف أن الجيش الإسرائيلي كان يحتل قسماً لا يستهان به من الجنوب، بعد وصوله إلى بيروت في صيف 1982، لتكتمل الحال السوداء التي خيمت على لبنان في نهاية الثمانينات. أما الجيش السوري فكان يسيطر على الشمال والبقاع وقسم من جبل لبنان، ويرابط في غرب العاصمة، وصولاً إلى حدود مدينة صيدا جنوباً.
العماد ميشال عون، كان قائداً للجيش اللبناني المنقسم، للمرة الثانية منذ العام 1984، سبقتها مرة أولى في العام 1976. ثم تولى عون في العام 1988 رئاسة حكومة عسكرية مقرها القصر الجمهوري الرئاسي في بعبدا، فيما كان الدكتور سليم الحص يرأس حكومة أخرى بالوكالة في بيروت الغربية، كانت مستقيلة وأعيد إحياؤها بإيعاز من النظام السوري، بعد اغتيال رئيسها رشيد كرامي. ففي عشايا انتهاء الولاية الدستورية لرئيس الجمهورية أمين الجميل، كان الجميل وقائد الجيش ميشال عون وقائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع، قد توافقوا وفاق الضرورة والعداوة المبيّنة، على رفض إصرار الرئيس السوري حافظ الأسد على ترئيس النائب ميخائيل الضاهر، بعد محادثات الأسد مع المندوب الأميركي ريتشارد مورفي في دمشق التي عاد منها ليقول مهددا متوعدا في بيروت: إما ميخائيل الضاهر وإما الفوضى والخراب. هكذا أُرغم الرئيس الجميل وقائد "القوات اللبنانية" على الاتفاق على تنصيب ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية، تداركاً للفراغ الرئاسي والحكومي في الشطر المسيحيي من لبنان.
ما إن تولى عون رئاسة الحكومة، حتى تفاقم طموحه إلى رئاسة الجمهورية، فبادر إلى خوض ما سمّاها "حرب التحرير" ضد القوات السورية في لبنان. بعد فشله في تلك الحرب المدمرة، سرعان ما باشر حرباً أخرى ضد "القوات اللبنانية" في المناطق المسيحية، فأطلقت "القوات" على تلك الحرب تسمية "حرب الإلغاء". وهي كانت مدمرة للطرفين وللمجتمع المسيحي، ومهدت لاجتياح القوات السورية المناطق المسيحية التي كانت تسمّى "المناطق الحرة" في مقابل المناطق الأخرى الإسلامية التي يسيطر عليها الجيش السوري و"حركة أمل" الشيعية، بعد حلفها مع قوات الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي الجنبلاطي في ما سمّي "انتفاضة 6 شباط" 1984، ضد الجيش اللبناني والرئيس أمين الجميل، لإسقاط "اتفاق 17 أيار" الذي كان الرئيس الجميل مزمعاً على توقيعه مع إسرائيل تمهيداً لسحب جيشها من لبنان. بعد تلك "الانتفاضة" الميمونة التي شطرت الجيش اللبناني، وكرّست الإحتلال الإسرائيلي، اقتتلت ميليشيا "أمل" بقيادة الأستاذ نبيه بري مع ميليشيا التقدمي الاشتراكي الجنبلاطية في شوارع بيروت، ثم خاضت "أمل" حروباً مديدة على المخيمات الفلسطينيين وبقايا مسلحيها. فمهدت هذه الحروب لعودة الجيش السوري إلى الشطر الغربي من بيروت، بعدما كانت القوات الإسرائيلية قد أخرجته منها وصولاً إلى صوفر، كما أخرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات من لبنان الى تونس في صيف 1982.
النواب والهستيريا العونية ترسم هذه اللوحة صورة إجمالية عامة للجحيم اللبنانية في ثمانينات القرن العشرين، عشية انعقاد مؤتمر الطائف النيابي في السعودية، لإنهاء الحرب. بعد حربيه المدمرتين، لم يبق لميشال عون سوى تجييش المجتمع المسيحي المدني أو الأهلي المنهك، ودعوته إلى الإحتشاد اليومي حول قصر بعبدا الرئاسي لحمايته وحماية طموحه إلى رئاسة الجمهورية، من هجوم سوري محتمل على القصر.
وسط هذه الجحيم التي بلغتها أحوال لبنان، وبسبب التهديد والوعيد اللذين أطلقهما عون ضد النواب اللبنانيين الذين تسوّل لهم أنفسهم المشاركة في الطائف، ولتعذّر عقد مؤتمرهم على الأراضي اللبنانية التي كانت تميد وتحترق، ولأرجحية الدور السعودي في "اللجنة العربية العليا" الثلاثية المنبثقة من مؤتمر القمة، عقد النواب مؤتمر الطائف ما بين 30 أيلول و22 تشرين الول 1989. وفيما بلغ عدد النواب الذين حضروا المؤتمر 61 نائباً، فإن 58 منهم أقرّوا "وثيقة الوفاق الوطني" التي عارضها نائبان وامتنع ثالث عن التصويت. أما النواب الذين تغيّبوا عن الحضور فكانوا 12 نائباً. وإذا أضفنا عدد الحاضرين إلى عدد الغائبين، يتبين أن هناك 26 نائباً لا وجود لهم قط، من أصل عدد النواب الـ99 المنتخبين في العام 1972.
هذا يعني أن النواب الـ26 الذين لا وجود لهم في عداد الحاضرين والمتغيبين، كانوا في معظمهم قد توفوا في سنوات الحرب المديدة، ومنهم من اغتيل، كالنائب ناظم القادري والرئيس رشيد كرامي، بعد اغتيال رئيس منتخب للجمهورية في صيف 1982، هو قائد "القوات اللبنانية" بشير الجميل.
الوفاق المفرغ بعد مناقشات وخطب ومهاترات ماراتونية غرق فيها نواب مغلوبون على أمرهم، اكتفت "وثيقة الوفاق الوطني" لإنهاء الحروب المتمادية، بإدخال تعديلات (سمِّيت في الوثيقة "إصلاحات سياسية") على مواد في الدستور اللبناني المعتمد منذ حقبة الانتداب الفرنسي على لبنان واستقلاله في العام 1943. كأن حروب الـ15 سنة كانت حروباً دستورية! أما البنود الأهم في التعديلات التي أدخلها مؤتمر الطائف و"وثيقته" على الدستور القديم، فتقتصر على توزيع الصلاحيات الدستورية توزيعاً جديداً بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وبين السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (مجلس النواب). منحت "الوثيقة" صلاحيات جديدة للسلطة التشريعية، على حساب السلطة التنفيذية، في سابقة غريبة ومستهجنة في دساتير الأنظمة الجمهورية البرلمانية.
لكن المضمون الفعلي الذي يخترق التعديلات الدستورية كلها، غلّب صلاحيات رجال السياسة المسلمين في السلطتين التنفيذية والتشريعية، على حساب أقرانهم المسيحيين الذين كانوا يتمتعون بما يسمّى "أرجحية" وخصوصاً لرئيس الجمهورية في الدستور القديم.
في ضوء التجربة المديدة التي أعقبت إقرار "وثيقة الوفاق الوطني" في الطائف، يرقى ما كرّسته هذه الوثيقة إلى أن يكون شل قدرة المؤسسات الدستورية للدولة اللبنانية، على ممارسة الحكم واتخاذ القرارات، إلا بتدخل وضغوط خارجية (سورية في الغالب وفي الممارسة العملية) تُرغم أقطاب الحكم وزعماء الطوائف على الصدوع لتلك التدخلات والضغوط الأمنية من جهاز المخابرات السوري. وذلك بعدما وزعت وثيقة الطائف الصلاحيات والسلطات الدستورية على نحو متضارب سمِّي "توافقياً"، لإرساء آلية يمكن تسميتها الوفاق المفرغ: - تقليص الصلاحيات والسلطات الدستورية لرئيس الجمهورية، المسيحي الماروني، بحسب الأعراف اللبنانية غير المنصوص عليها في الدستور القديم.
- توسيع صلاحيات وسلطات رئيس الحكومة، المسلم السني، بحسب الأعراف نفسها.
- إناطة القرارات الحكومية "الأساسية" والمهمة بمجلس الوزراء مجتمعاً، على أن تُتخذ هذه القرارات "توافقياً" بين الوزراء، "فإذا تعذر ذلك فبالتصويت" بـ"بثليّ أعضاء مجلس الوزراء" الذي صار نادياً لأهواء متضاربة لزعماء كتل طائفية. ويرأس هذا النادي "رئيس الجمهورية عندما يشاء، من دون أن يصوّت". وهذا يعني أن "رئيس الدولة" صار أشبه بخيال ظل، في مجلس وزراء متضارب الإرادات والأهواء التي لا يضبطها سوى الراعي الإقليمي السوري.
- لتكريس تضارب الأهواء والإرادات في حلقة مفرغة، كُرِّست المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في مقاعد مجلس الوزراء والنواب، بعدما كانت مقاعد مجلس النواب موزعة بنسبة 6 إلى 5 لمصلحة المسيحيين في الدستور القديم.
- إمعاناً منه في التضارب بين مؤسسات الحكم، كرَّس اتفاق الطائف أيضاً مقدرة السلطة التشريعية على تعطيل قرارات السلطة التنفيذية، ومنحَ النوابَ الحقَّ في اختيار رئيس الحكومة، بعدما كان اختياره منوطاً برئيس الجمهورية.
الجدلية القاتلة في "استعادة نقدية" لاتفاق الطائف، نشرها نوّاف سلام في كتيّب لدى "دار النهار" في العام 2003، شدّد على "دور العوامل الخارجية" في الأزمة والحروب المديدة في لبنان، وفي إقرار وثيقة الوفاق الوطني التي تبنّاها النواب اللبنانيون في الطائف. وهو سمّى هذه العوامل "الجدلية القاتلة" المتمثلة في "سعي الزعماء اللبنانيين إلى دعم خارجي لتعزيز مواقعهم في وجه خصومهم المحليين، وباستغلال اللاعبين الخارجيين الانقسامات الداخلية لتعزيز نفوذهم الإقليمي". لكن العوامل الخارجية نفسها، بحسب سلام، هي التي سمحت بانعقاد مؤتمر الطائف، وإقرار الوثيقة التي أبقت السيادة اللبنانية "معلّقة" ورهناً للعوامل الخارجية: استثناء ميليشيا "حزب الله" من حلّ الميليشيات، إبقاء الجيش السوري مرابطاً في سهل البقاع، و"إذا دعت الضرورة في نقاط أخرى" يتم تحديدها والاتفاق عليها وعلى مدة المرابطة بين البلدين، حتى تأمين "الانسحاب غير المشروط" للقوات الاسرائيلية من الجنوب اللبناني.
أما حين انسحب الجيش الإسرائيلي من الشريط الحدودي المحتل في العام 2000، فأصيب كلٌّ من النظام السوري و"حزب الله" بالهلع، معتبرين انسحابه "مؤامرة"، أو من "طرف واحد"، أي غير مشروط، ثم اختلقا مسألة مزارع شبعا المحتلة، لإبقاء السيادة اللبنانية معلّقة حتى تحرير المزارع التي لم يشأ النظام السوري الاعتراف خطياً بلبنانيتها.
وإذ نص اتفاق الطائف أيضاً على "نشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية"، فإن "حزب الله" والنظام السوري، حالا، لمرتين متتاليتين، دون انتشار الجيش اللبناني في المناطق التي انسحب منها الجيش الاسرائيلي: من منطقة جزين أولاً، ثم من الشريط الحدودي الجنوبي تالياً، في العام 2000. وذلك كي يبقى "حزب الله" حراً طليقاً كجهاز عسكري وأمني في خدمة السياسات والاستراتيجيات السورية والإيرانية المشتركة في لبنان. لكن حرب تموز 2006 الإسرائيلية المدمرة، هي التي أرغمت "حزب الله"، أخيراً، على السماح للجيش اللبناني بالوصول إلى الحدود اللبنانية الدولية في الجنوب. فاستثمر حزب المقاومة الأبدية ما سمّاه "نصره الإلهي" في تلك الحرب، كي يستكمل سيطرته على مفاصل أجهزة الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وصولاً الى ما نحن عليه اليوم من تمديد متواصل لمجلس النواب، وفراغ في منصب رئاسة الجمهورية، فيما حزب المقاومة المنسية يشارك في الحرب السورية تأبيداً لبقاء بشار الأسد ديكتاتوراً دموياً في سوريا وعلى شعبها الشريد.
الأسد عرّاباً للطائف تسمح حال العطالة والتحلل التي وصل إليها لبنان الدولة والمجتمع اليوم، بمراجعة ما أرساه اتفاق الطائف من آليات لإدارة شؤون الدولة وتسيير دفة الحكم والمؤسسات فيها، بعد ربع قرن على ذلك الاتفاق الذي يكرر كثرٌ من أصحاب الرأي والسياسيين اللبنانيين بأن معظم بنوده لم تطبَّق، وظلّت حبراً على ورق.
الحق أن هذه الآراء التي تعتبر أن الطائف لا غبار عليه كنص دستوري، لكن القيّمين عليه تخلّوا عن تطبيقه أو فشلوا فيه، تشبه على الأرجح الحجج الساذجة التي تعيد فشل الأنظمة الشيوعية والاشتراكية ومساوئها الديكتاتورية إلى القيّمين على تطبيقها، فيما النظرية أو الفكرة الشيوعية والاشتراكية منزّهة من كل شائبة، وترقى إلى دعوة أبدية صالحة في كل زمان ومكان لخلاص البشرية من المساوئ والمظالم. وهي في هذا، كمثل الأديان والدعوات الخلاصية المنزهة المتعالقة في أصلها وفصلها، قبل أن يشرع البشر في ممارسة تعاليمها وتأويلها على نحو خاطئ أو سيئ لخدمة مصالحهم وأهوائهم.
فالظروف التي كان يعيشها لبنان حين وُضعت بنود اتفاق الطائف، وكذلك الجلسات الماراتونية التي عقدها النواب اللبنانيون في المدينة السعودية، وما دار فيها من مناقشات وتدخلات واتصالات، إنما تنضح كلها وتبشّر بما آلت إليه أحوال لبنان اليوم. ذلك أن ظروف انعقاد ذلك المؤتمر، والنواب المشاركين فيه وما يمثلونه، والأطراف العرب والدوليين الذين رعوه، والاتفاق الذي نجم عنه، ليسوا سوى مرآة لما رست عليه لاحقاً الممارسات الدستورية والسياسية في لبنان ما بعد الطائف.
فحافظ الأسد - كبير مهندسي الحروب الملبننة منذ بدايات انقسام الشعب اللبناني وانشقاقه حول مسألة تحوُّل لبنان ساحة عربية سائبة لتخزين مقاتلي المنظمات الفلسطينية المسلحة - اعتبر أنه الأقرب والأولى والأطول باعاً في استثمار هذه الساحة، والاستئثار بها، منافساً بذلك قرينه وخصمه اللدود، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. ففي بدايات إندلاع الحرب في لبنان، أدخل الأسد جيشه إلى البقاع، ثم إلى بيروت تحت ستار "قوات الردع العربية" التي أُتخذ قرار تشكيلها في مؤتمر للقمة العربية، لإنهاء الحقبة الأولى من الحرب الملبننة المعروفة بحرب السنتين (1975 – 1976). ومذذاك لم يعد للرئيس السوري من شاغل يومي في حياته سوى التمرّس في التلاعب بالجماعات اللبنانية المنقسمة، وحفر الخنادق بينها، للإيقاع بها واستتباعها، وصولاً إلى السيطرة على لبنان، ولو حوّله ذلك أنقاضاً.
هذا ما وصل إليه لبنان والأسد فعلاً عشية انعقاد مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء في العام 1989، "لإنهاء الأزمة اللبنانية" المتمادية. ذلك أن الخصم اللدود للأسد، أي ياسر عرفات، كانت اسرائيل قد هجّرته الى تونس صيف 1982. أما خصمه اللبناني الآخر، زعيم ما سُمِّي "الحركة الوطنية التقدمية"، كمال جنبلاط، فكان الأسد قد تخلص منه اغتيالاً في العام 1977.
بعد اغتيال زعيمها وقائدها وهو في قمة نشوة وصوله إلى رئاسة الجمهورية صيف 1982، استغرقت "القوات اللبنانية" في انشقاقات متتالية، وصولاً الى إدارة ميشال عون مدافعه في اتجاه مناطقها، بعد فشله المدمر في "حرب التحرير"، وفقدانه الأمل في الوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية غداة إبرام النواب اللبنانيين اتفاق الطائف وانتخاب النائب رينه معوض رئيساً للجمهورية، ثم اغتياله بعد أيام، وانتخاب الياس الهراوي خلفاً له، وإقامته متنقلاً بين ثكنة عسكرية في أبلح البقاعية حيث ترابط القوات السورية، وبين المقر الرئاسي الموقت في بناية سكنية يملكها رفيق الحريري في الرملة البيضاء، قرب المقر الرئيسي للمخابرات السورية في بيروت. أما عقبة ميشال عون المتحصن عنيداً في قصر بعبدا لرئاسة الجمهورية، فقد مهّدها حافظ الأسد بقصفه القصر بوابل من صواريخ طائراته الحربية، فدمّرته في فجر 13 تشرين الثاني 1990، قبل أن يرتكب جيشه مجزرة بالجنود اللبنانيين في بعبدا والمتن.
لبنان محميّة أسدية هذا غيض من فيض وقائع الممارسات الأسدية المديدة المدمرة التي مهّدت لاتفاق الطائف. فهل كان يمكن الأسد أن يغيّر هذه الممارسات التي تنحصر خبرته وموهبته العبقرية بها في سوريا قبل لبنان، ليتحول رائد ممارسات دستورية، ما بعد إبرام اتفاق الطائف، ووضعه موضع التطبيق على الأنقاض التي أراد الإتفاق انتشال أشلاء لبنان من تحتها، لإعادة إحيائه دولة دستورية؟! الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج إلى تكهنات، بل إلى تأريخ للوقائع التي حوّلت لبنان ما بعد الطائف محميّة أسدية ورثها الإبن عن والده، كما ورث سوريا نفسها مع شعبها، وشرع في 2011 بتدميرهما على نحوٍ أشرس بكثير مما فعله الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، ومما فعله ويفعله الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبناءً على ما فعله نظام بشار الأسد ويفعله في سوريا منذ 2011، ربما على اللبنانيين جميعاً تقديم آيات الشكر له لرأفته بهم طوال 15 سنة. ذلك أنه اكتفى بكمّ أفواه المطالبين منهم بتطبيق اتفاق الطائف. والحقّ أنه صبر كثيراً على الذين تجرأوا على فتح أفواههم وتحدثوا جهاراً أو في الخفاء عن تطبيق ذلك الاتفاق.
فقبل العام 2000 وبعده، تصدرت الكنيسة المارونية أولئك المجاهرين، إضافة الى قاعدة طالبية وشبابية مسيحية ناشطة في التجمع والتظاهر. وبين الكنيسة المارونية وتلك القاعدة الطالبية الشبابية (العونية والقواتية، وسواهما من الناشطين الميدانيين)، حلّ فراغ سياسي كبير جرّاء التدمير المنهجي للهيئات والقوى السياسية المسيحية: حلَّ "القوات اللبنانية" ومطاردة كوادرها وتشريدهم، وسجن قائدها. أما ميشال عون فحلَّ في فرنسا، مقيماً على تربية ضغائنه التي لا تنطوي إلا على طموحه الهستيري في الوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية، متقنّعاً بتقيّة سياسية تظهره المخلص الأوحد من الاحتلال السوري الذي سرعان ما حالفه وحالف صنائعه ضد الحركة الاستقلالية، فور عودته إلى لبنان في العام 2005، فيما كانت موجة الاغتيالات تحصد أقطاباً وناشطين في تلك الحركة.
أثناء ولادة الحركة الاستقلالية وتناميها بطيئاً بطيئاً، من "تجمع قرنة شهوان" في رعاية الكنيسة المارونية، إلى انضمام شبيبة الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطي الدرزي ما بعد مصالحة الجبل وقبيل معركة التجديد الرئاسي للضابط الأسدي في القصر الجمهوري، إميل لحود، الذي كان قد وضع، مع اللواء جميل السيد، الهيكلية الأولى لتحويل المؤسسة العسكرية اللبنانية وسواها من الأجهزة الأمنية، أجهزة رديفة للجيش والمخابرات الأسدية - في هذه الأثناء كان رفيق الحريري، أحد عرّابي الطائف، يعيش حالاً من الباطنية السياسية المتأرجحة بين مجاراته سياسات الأسدين، والسكوت المضني عن صلافة الأسد الثاني، وبناء علاقات عربية ودولية واسعة تتأرجح بدورها بين كونها تحت مظلة سوريا الأسد، وكونها تؤسس هامشاً لبنانياً مستقلاً. وحين بدأت معركة التجديد لإميل لحود وارتسمت الملامح الواضحة لمعارضة سياسية لبنانية عريضة، تجمعت روافدها في ما سمِّي "لقاء البريستول"، عاش رفيق الحريري أيامه الأخيرة على شفرة الخطر والمهانات والتهديدات التي تلقّاها في لقائه الأخير وقوفاً لدقائق معدودة في حضرة بشار الأسد الذي قال له إنه سيدمر لبنان على رأسه، ورأس وليد جنبلاط. وفيما كانت فرقة القتل تعمل في لبنان، وتضع اللمسات الأخيرة على خطة القتل والتدمير التي أدى تنفيذها الى جلاء الجيش والمخابرات السورية عن لبنان، كان "حزب الله" ومن حوله الشراذم الأسدية اللبنانية، وكذلك ميشال عون الذي خلع أقنعته، يملأون بالسواد والضغينة والأحقاد ذلك الفراغ الجميل الممتلئ بفرح الحركة الاستقلالية وزهوها الناجمين عن زوال الاحتلال الأسدي المزمن للبنان.
دستور الجهاد الحربي في خضم ما حدث في لبنان بعد اتفاق الطائف - الذي قايض إنهاء الحروب الأهلية الملبننة المديدة بتحويل البلاد محميّة أمنية يدير شؤونها ومجلسي نوابها ووزرائها والطاقم السياسي فيها، جهاز أمني يمتهن الترهيب والترغيب سياسة يومية لتصريف شؤون الحكم والقضاء والإدارة العامة، وصولاً الى المجالس البلدية في البلدات والقرى - هل كان هنالك من فرصة لنشوء حياة سياسية دستورية بناءً على ذلك الاتفاق ووثيقته للوفاق الوطني؟
في الأثناء تكوّنت حركة سياسية استقلالية لبنانية سلمية. وفي ظروف إقليمية ودولية مؤاتية، تمكنت هذه الحركة من إخراج جيش الاحتلال الأسدي وأجهزته الأمنية المخابراتية من المحمية، تمهيداً لتحويلها جمهورية دستورية ديموقراطية مستقلة، على غرار ما كانت عليه قبل نحو ثلاثة عقود.
لكن الحزب الإلهي، الطائفي التوتاليتاري، والسرّي المسلّح، الناشئ في لبنان العام 1985 في كنف جهاز مخابرات دولة "ولاية الفقيه" الإلهية الايرانية، وفي خضم احتلالين شرسين مدمرين للبنان، وفي "خدمة سيدين" اثنين، إقليميين متحالفين، سرعان ما قسر "سياسته" الأمنية، الجهازية والجهادية، على إجهاض الحركة الاستقلالية اللبنانية، وتقويضها، فيما حصدت الاغتيالات المتتالية نحو دزينة من قادتها الفاعلين وعشرات سواهم من اللبنانيين. وخدمةً لسيديه، لم يلبث الحزب السرّي المسلّح أن أشعل حرباً مع أسرائيل التي قاومها وأجلت جيشها من لبنان منذ العام 2000. وما إن توقفت الحرب المدمرة تلك التي استقدمها حزب الحروب الى لبنان وعليه، دفع جمهوره المرصوص وعامله المسيحي ميشال عون، الى احتلال وسط بيروت، ليردّ نتائج الحرب الى نحر حركة استقلالية هشة وغير متماسكة، بل منقسمة.
وما إن بدأت انتفاضات "الربيع العربي" في 2011، وشملت سوريا الأسد، حتى جدّد حزب الحروب شبابه، فاجتاز مقاتلوه المجاهدون الحدود اللبنانية، وشاركوا الجيش الأسدي في قتل المنتفضين السوريين، بعدما حملهم القتل اليومي الذي سلّطه عليهم طاغية دمشق، على حمل السلاح والتحول كتائب جهادية مسلحة، قام بعض انتحارييها ومجنديهم من "أهل السنّة" اللبنانيين البائسين الساخطين على الحزب الشيعي الجهادي وجبروته، بتفجيرات انتحارية في معاقله الأهلية في الضاحية الجنوبية، وضد سفارة سيده الإيراني في بيروت.
في هذه الأحوال، بل الأهوال وحوادثها المرهقة المتشابكة في سرعتها التي تقطع الأنفاس، هل يمكن الكلام على تطبيق أحكام دستورية نصّت عليها وثيقة وُضعت قبل 25 سنة، وظلّت معلّقة طوال 15 سنة في محمية أمنية أسدية، عزَّ على حزب الحروب الدائمة واحتقار المواثيق والدساتير، أن تتحول المحمية الأمنية جمهورية دستورية ديموقراطية مستقلة؟!
ألا يعتبر حزب "ولاية الفقيه" الإلهي أن الدساتير والقوانين الدولية من صنائع الطاغوت الشيطاني في الغرب وأميركا، وينبغي لمجاهديه الإلهيين شنّ حروبهم الأبدية عليه وعلى عملائه الداخليين في جسم الأمة، أمة جبروت المستضعفين الخمينية الإسلامية التي لا دستور لها ولا دولة ولا حدود، إلا دستور الجهاد ودولته وحدوده؟!
الطائف دستوراً للتعريب الحق أن دستور أمة المستضعفين الإسلامية في لبنان، ليس سوى دستور للجهاد الحربي. لكن وضاح شرارة - صاحب كتاب "دولة حزب الله: لبنان مجتمعاً إسلامياً" - يرى أن لهذا الدستور سوابقه في لبنان. فالحروب الملبننة، منذ بدايتها، وضعت لبنان على سكة التعريب الذي جعل الحربَ مقوّماً أساسياً أوحدَ للسياسة والممارسة السياسية الأهلية التي لا تعبأ بالدساتير والقوانين والدول الوطنية وحدودها الإقليمية وبرلماناتها وحكوماتها ومجتمعاتها. ففي كتابه "خروج الأهل على الدولة"، يعتبر شرارة أن اتفاق الطائف توَّج سياسات التعريب في لبنان منذ ربيع 1973. ذلك أن ما سمِّي "البرنامج السياسي المرحلي" لـ"الحركة الوطنية اللبنانية" بقيادة كمال جنبلاط الملتحق بحركة المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان، هو "الذي قاد خطى حركة المطالبة والمعارضة العروبية والإسلامية، وألهم سيرها، قبل أن تحطَّ رحالها في مدينة الطائف، بالمملكة العربية السعودية، وتستولي على حكم لبنان. وعلى رغم المنازعات الدامية التي مزقت أجنحة الحركة العروبية في لبنان الحروب، فإن قواها "المتعاقبة والمختلفة، أقامت على نواة برنامج صلبة ومتماسكة، جلتها وثيقة الوفاق الوطني، ثم صاغتها في مواد الدستور اللبناني الجديدة في حلّة ناصعة، والى الابد" العروبي الأسدي.
ومن مقومات عروبة لبنان: "نقض الدولة اللبنانية، وإنكار تسويغ السياسات التي تنتهجها بعلل ذاتية وشرعية (دستورية)، مسندها إرادات اللبنانيين وإداراتهم وهيئاتهم السياسية المنتخبة". وهذا لـ"تلبية الحاجة الفلسطينية الى دولة لبنانية تتضاءل، سيادة واستقلالاً، بإزاء لوازم العمل المسلح الفلسطيني". والحاجة الفلسطينية التي قام بتلبيتها العروبيون المسلمون، أدت الى انقسام لبنان انقساماً أهلياً عمودياً، والى نشوب الحروب الملبننة. أما وثيقة الطائف للوفاق الوطني، فجاءت لتلبية حاجة سورية عروبية أسدية استعملت مطالبة المسلمين اللبنانيين المديدة بالمشاركة في الحكم وتحسين موقعهم فيه، مطيّة للاستيلاء على لبنان، وتعريبه سياسياً ودستورياً. والتعريب يعني تسليط الجماعات الأهلية وأجهزتها على الدولة، وتفكيك عرى هذه الدولة ولحماتها السياسية والدستورية، وكذلك عرى الجماعات وتماسكها، لتحويلها جماعات حربية متناحرة.
وها هو الحزب الإلهي الخميني الملبنن، يرث السياسات العروبية في لبنان الذي حوّله قاعدة حربية جهادية لأحلام سيّده الأمبراطورية في سوريا ولبنان والعراق، تاركاً لسواه التلهي بالكلام عن الدساتير والقوانين والدول وحدودها الوطنية. |