التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٤
المصدر: ملحق النهار الثقافي
نعم للطائف... ية الجديدة: تطبيق الطائف ودستوره! - رمزي الحافظ
التأم شمل اللبنانيين، حالما توقفت المعارك، في جميع الميادين: الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية، فغلب الاجتماع على الفرز الطائفي - الجغرافي الذي فرضته الحرب، على الرغم من عدم تطبيق الصيغة اللبنانية ما بعد اتفاق الطائف، وعلى الرغم من إحلال نظام شمولي ظاهره ديموقراطي في مكانها. في أشهر قليلة، عاد التواصل وعادت المياه تجري في عروق المصالح المشتركة بين المواطنين، على الرغم من ضغط وجود النظام السوري بعسكره ومخابراته وإدارته معظم السياسيين على شاكلة بيادق أو دمى. إن دل ذلك على شيء، فعلى أن اللبنانيِّين كانوا يتوقون إلى إعادة اللحمة بينهم لأسباب عاطفية واقتصادية وثقافية، بينما كان زعماؤهم (أمراء الميليشيات إياهم!) يتصارعون على مغانم الحكم، بل على فتاته. لقد انبعث طائر الفينيق من تحت الرماد من جديد، لكن بأجنحة متكسرة.

منذ بداية الحرب الداخلية التي اندلعت في العام 1975، دأب الوسطاء المحليون والعرب والدوليون على محاولة رأب الصدع بين المتخاصمين، من دون أن يخفى أن أولئك الوسطاء ساهموا في تأجيج نار البغضاء وفي تسليح الأفرقاء المتحاربين وتمويلهم. عُقدت اجتماعات ومؤتمرات ووقِّعت اتفاقات لإنهاء الحرب، كان أبرزها إعلان "الوثيقة الدستورية" (1976)، ومؤتمر القمة السداسي في الرياض (1976)، وإنشاء قوات الردع العربية (1976)، واتفاق شتورا (1977)، ومؤتمر الحوار اللبناني (1983-1984) في جنيف ولوزان، والاتفاق الثلاثي في دمشق (1985)، واجتماعات اللجنة السداسية العربية في تونس (1988)، واللجنة الثلاثية العربية المنبثقة من مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء لبحث الأزمة اللبنانية (1989)، التي دعت إلى عقد اجتماع لمجلس النواب اللبناني في مدينة الطائف السعودية لمناقشة مسوّدة أعدت لاتفاق ينهي الحرب في لبنان، وإقرارها. وكان معظم الأفرقاء، وإلى جانبهم البطريرك (الكاردينال لاحقاً) مار نصرالله بطرس صفير، قد اطّلعوا مسبقاً على هذه المسوّدة ووافقوا على إطلاق حوار يوصل اللبنانيين إلى اتفاق على أساسها. لم ينجح كل هذا الحراك في وضع حد نهائي للحرب، لكنه أنتج تطوراً تراكمياً في المفاهيم، ومكّن من تقديم التنازلات، نتيجة للحوار، ولا سيما بعدما تبدلت موازين القوة، وأصاب الإنهاك المتصارعين، متبوعاً بضغط دولي وإقليمي أدى إلى نضج الظروف المؤاتية لتسوية نهائية.

توق لإنهاء الحرب
تناولت التسوية بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية، وحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وحل مشكلة المهجرين وإثبات حقهم في الرجوع إلى مساقط رؤوسهم. تناولت أيضاً الوجود السوري، ومواجهة إسرائيل، وتعديلات دستورية. وقد حددت إطاراً زمنياً وجغرافياً للانسحاب السوري (في سنتين إلى البقاع) من دون تحديد موعد للانسحاب النهائي، كما لم توضع آلية لمراقبة تنفيذ هذا الانسحاب، اللهم إلا توقيع بعض الدول بصفة شاهد. هكذا نجح النظام السوري في التملص بسهولة من تنفيذ التزاماته، وجاءت الظروف الإقليمية اللاحقة، وخصوصاً حرب الخليج، لتعفيه عملياً منها.

أنيطت مهمة الدفاع بالقوات المسلحة الرسمية، ودعي إلى تدريبها كي تكون قادرة على تحمل المسؤوليات الوطنية وتنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال إزالة شاملة، والتمسك باتفاق الهدنة الموقّع في العام 1949، واتخاذ كامل الإجراءات اللازمة لتحرير جميع أراضي الوطن، وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، ونشر الجيش في منطقة الحدود المعترف بها دولياً، والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود.

جاء اتفاق الطائف بنتائج كبيرة في بعض النواحي، ومتواضعة في أخرى. لقد وضع الأسس الضرورية لوقف الأعمال الحربية، وكان هذا مطلباً شعبياً تتوافق عليه الأغلبية الساحقة من المواطنين، بصرف النظر عن أي قيد أو شرط يصاحب السلام المنشود. لم تكن أكثرية المواطنين تريد استمرار الحرب تحت أي ذريعة، بل كانت تواقة الى السلام بأي ثمن. وحدها مجموعة العماد ميشال عون كانت الطرف المعارض لهذا الاتفاق، لأنه لم يتضمن انسحاباً سورياً كاملاً من لبنان، ولأنه حدّ من صلاحيات رئيس الجمهوية لمصلحة مجلس الوزراء، من دون أي إصلاح في النظام السياسي.

إن كان يسجَّل للطائف من إنجاز، فهو وقف الحرب. إنجازه الثاني الكبير إعادة إحياء الصيغة اللبنانية التي احتضرت خلال الحرب. أيقن ممثلو المسيحيين أن عليهم التخلي عن بعض الامتيازات والتساوي بعض الشيء بالمسلمين، ثمناً لإعادة إحياء لبنان، فيما قبل ممثلو المسلمين بالحد الأدنى من صلاحيات معدّلة ووافقوا على مناصفة في الحكم، على الرغم من تفوقهم العددي، لثقتهم أن ذاك هو السبيل الوحيد لديمومة لبنان. هكذا رسّخ الطائف، عملياً، مقولة الحاجة التبادليَّة بين المسيحيِّين والمسلمين، بعدما أظهرت الحرب للطرفين أنها تمرين عبثي، كما دلت التجربة أن المتحاربين، من الطرفين، لم يجدوا من يخفّ إلى نجدتهم من أشقاء عرب، أو من غرب حنون وصديق، أو حتى من عدوّ.

لم يُدخل الطائف تغييرات جذرية على النظام، فاقتصرت التعديلات، أو كادت، على صلاحيات رئيس الجمهورية، وهي صلاحيات لا يزال تعديلها يُعتبر مأخذاً حتى اليوم، ولا يمل زعماء موارنة من إثارته. أهم ما تناولته التعديلات مقدمة الدستور، فأكدت ما كان ينص الدستور عليه أصلاً، أي مبدأ المساواة بين المواطنين. البند الأكثر إثارة للجدال هو بند إلغاء الطائفية السياسية وجعلها هدفاً وطنياً أساسياً، وعلى الرغم من أن الدستور لم يكن يُعرِّف أو يعترف في السابق بالطائفية السياسية، ومثله القوانين، ما عدا قانون الانتخابات. لم ينص دستور 1926، أو دستور 1943، أو دستور الطائف، على أي توزيع طائفي، فكيف يُلغى ما هو غير موجود؟

لعل أسوأ ما جاء في اتفاق الطائف هو تكريس مبدأ الطائفية السياسية "الموقتة" في الدستور... إلى حين إلغائها. فطبقاً لما تنبأ به المثل الفرنسي "إن الموقت فقط هو الذي يستمر"، لم يتم العمل على إلغاء الطائفية السياسية منذ ذلك الحين، وأدى هذا البند إلى شرعنة الطائفية السياسية التي لم يكن لها من قبل أيّ مكان في النصوص، وإن استشرت في بعض النفوس.

الوصاية السورية
إلى جانب لعبة الأمم والمصالح والأطماع الإقليمية، كان ثمة وجهان رئيسيان ظاهران تسببا باندلاع الحرب الداخليَّة في العام 1975. فمن جهة، كانت إشكالية سلاح الفصائل الفلسطينية والصراع بين توجس قسم من اللبنانيين من هذا السلاح ومن خطره على الكيان والصيغة، ومن جهة أخرى كانت هناك "المؤامرة" على الثورة الفلسطينية وسلاحها. الإشكالية الثانية الموازية هي الانقسام بين الأحزاب والزعامات التقليدية المسيحية من جهة، التي كان همها المحافظة على موازين القوى في النظام والامتيازات النابعة منها، والحركة الوطنية والزعامات الإسلامية التقليدية من جهة أخرى التي كانت تنادي بإصلاحات في النظام وفي العدالة الاقتصادية والاجتماعية. تقابلت الإشكاليتان واصطدمتا، فحصل الانفجار الكبير. لكن عندما حان وقت صفقة الطائف، كانت قواعد اللعبة قد تغيرت، وتبدل اللاعبون. زال معظم معالم الإشكالية الفلسطينية في العام 1982، وحل محلها الاحتلال الإسرائيلي. المطالب بالتغيير السياسي وإدخال تعديلات على الدستور، اقتصرت على مغانم التوزيع السياسي، وذهبت الهواجس الاجتماعية والاقتصادية، المعلنة في بداية الحرب، أدراج الرياح. اندثر نفوذ السياسيِّين التقليديِّين من كلا الطرفين، ليحل محلهم لاعبون جدد، هم الميليشيات المتقاتلة وميشال عون والنظامان السوري والإيراني، فيما بقيت لعبة الأمم والمصالح والأطماع الإقليمية على حالها.

كذلك، تبدلت أولويات القوى الكبرى في الفترة القصيرة الفاصلة بين إنجاز اتفاق الطائف ونهاية حكومة الوفاق الوطني. عند انعقاد مؤتمر الطائف، كانت الدول الكبرى قد وافقت على وصاية محدودة لسوريا على لبنان، التي انقلبت لاحقاً إلى وصاية مطلقة كثمن لانضمام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في حرب الخليج لتحرير الكويت. هكذا، جُمّد تطبيق بنود اتفاق الطائف المتعلقة بإعادة انتشار القوات السورية في لبنان، تحضيراً لسحبها، وغُضّ النظر عن تمسك "حزب الله" بسلاحه، خلافاً لإتفاق الطائف وخلافاً لباقي الأفرقاء. ولم تتشكل الهيئة الوطنية لإزالة الطائفية السياسية، ولم تطبَّق التقسيمات الانتخابية بحذافيرها، ولم يتقدم قيد أنملة ملفّ اللامركزية الإدارية، وتم التخاذل في بسط سيادة الدولة وجيشها على كامل الأراضي اللبنانية.

أمراء الحرب والطوائف
تمخّض اتفاق الطائف عن تسلم أمراء الميليشيات الحكم، فيما أُبعد وسُجن كلّ من لم يتكيَّف مع النظام الجديد. المفارقة أن القوى التي غالت في انتهاك الدستور خلال الحرب، وأمعنت في تجاوز القوانين، وساهمت إلى أقصى حد في تخريب الوطن بشراً وحجراً، نصّبت هي نفسها المؤتمنة على تطبيق بنود اتفاق الطائف. ليس مستغرباً بعد ذلك أن يذهب تنفيذ اتفاق الطائف مذهب التقاطع بين المآرب الإقليمية والمصالح الفئوية المحلية. في الوقت الذي كان ينادي كل الأفرقاء بوجوب تطبيق اتفاق الطائف، كانوا يسيرون عملياً في طريق معاكس، حتى تغيرت المصطلحات وأبيح المحظور. أصبحت الأحزاب والشخصيات السياسية تجاهر بالخطاب الطائفي، وتطرح على الملأ معادلات تتحدى نص اتفاق الطائف وروحه، كان آخرها الاقتراح بأن تنتخب كل طائفة نوابها (في مخالفة صريحة لدستور يقول إن عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء)، ودعوة المسيحيين إلى أن يتوافقوا على اسم رئيس للجمهورية (في ضرب لمبدأ التنافس الانتخابي، جوهر الديموقراطية) بمعزل عن المسلمين الذين يتعيّن عليهم القبول بالاسم المتفق عليه تلقائياً، وقبول تسمية رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء، الشيعي والسنّي، على الأسس نفسها. لقد أصبح الطائفيون (نسبة إلى اتفاق الطائف) طائفيين (نسبة إلى الطائفية السياسية). في المقابل، ظلت البلاد خالية من أي قوة سياسية شعبية تعمل عكس هذه التيارات والأحزاب ذات المنحى غير الدستوري.

في المحصلة، جاء اتفاق الطائف كتسوية على قاعدة أفضل الممكن، وليس ترجمة لطموحات الوطن المثالية. من هذا المنظار، ينبغي اعتباره سلة متكاملة جاءت نتاج توازن القوى المختلفة آنذاك. إن الداعين اليوم إلى تعديل أجزاء من هذه التسوية القائمة على الحدود الدنيا من القواسم المشتركة، إنما يقولون بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة جولات تفاوض أنتجت الاتفاق إلى نقطة الصفر، وفتح جميع البنود الأخرى للمساومة. وقد يأتي اليوم الذي تكون فيه الطبقة السياسية جاهزة لذلك، أما اليوم، فإنها بالكاد تلتفت إلى عناوين هذا الاتفاق.

إضعاف المسيحيين
بعد نفي العماد ميشال عون إلى فرنسا، أجريت أول انتخابات نيابية تحت الوصاية السورية في العام 1992، وفي ظل قانون انتخابيّ زاد عدد مقاعد مجلس النواب إلى 128 للمرَّة الأولى، وبتقسيمات جديدة للدوائر الانتخابيَّة اعتمدت المحافظات دوائر في الشمال والجنوب وبيروت، والأقضية في محافظتي جبل لبنان والبقاع. رفع عدد النواب والتقسيمات الانتقائية للمناطق الإنتخابية، مثّلا خرقاً للنظام الذي اتفق عليه في الطائف، وأصبح دستوراً. قررت المعارضة المسيحية مقاطعة الإنتخابات، ولاقت استجابة ساحقة، بل شبه مطلقة، في مناطق عدة. تلقت الصيغة اللبنانيَّة ضربة أنهت الوعد والأمل بإعادة إحيائها. في العام 1994، اعتقل قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وحوكم. رأت المعارضة المسيحيَّة في المحاكمة جوراً سياسياً وانتقائيَّة، أشعراها باضطهاد مرّ.

بدوره، غادر رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل البلاد بعد انتهاء عهده، وذلك بسبب تهديد شعر به من أطراف مسيحيَّين آخرين، كما من القيادة السوريَّة. أما الوزير السابق والنائب ريمون إده، عميد الكتلة الوطنية، فسبق الجميع إلى المنفى في العام 1977 إثر تعرضه لأكثر من محاولة اغتيال. كان الموت قد غيّب في النصف الثاني من الثمانينات كلاًّ من الرئيس كميل شمعون ومؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل. فقد المسيحيون الصف الأول من قياداتهم بكامله، ولم يبق في المعترك السياسي إلا بعض الزعماء المحليين الذين كان عليهم الإرتضاء بحكم السوريين والتعاون معهم إذا ما أرادوا إبقاء حياتهم. برزت في المقابل وجوه جديدة في مناطق عدة، تعاون بعضها مع السوريين خلال الحرب، وعمل بعضها الآخر ضد الوصاية السورية قبل قراءته فعل الندامة وتقديم فروض الطاعة والولاء. بعض هذه الوجوه قدّم للسوريين خدمات جليلة أو هدايا قيِّمة، فكوفئ بمراكز نيابيَّة ووزاريَّة وحزبيَّة.

ضُربت الصيغة مجدداً من وجهة نظر المعارضة المسيحية التي شعرت بأنها الطرف الخاسر، وشعر قياديوها بأنهم يدفعون ثمن هذه الخسارة. مثّلت انتخابات 1992 غيضاً من فيض خروق الدستور والصيغة، حتى أضحت الممارسات تأسيساً لنظام جديد لا يشبه ما اتفق عليه في الطائف، لا في الشكل، ولا في الممارسة. شعر المسيحيون بالغبن، وعادت الهجرة لتشتد في صفوفهم، ولم يعد لهم إلا الكنيسة وبطريركها، الذي كانت عظاته كل يوم أحد المتنفس الوحيد، وكان يعبّر فيها عن الكثير مما كان يختلج في صدر رعيته.

الحريري والقبضة السورية
لم يكن وضع المسلمين أفضل حالاً. الزعامات السنّية إما أُبعدت، كالرئيس صائب سلام، وإما تعرضت للتحجيم المتعمد، كالرئيس عمر كرامي. الحال نفسها سادت عند الشيعة، إذ أدى غضب النظام السوري على الرئيس كامل الأسعد إلى إخراجه من الحياة السياسية. النظام نفسه لم يحتمل حتى الرئيس حسين الحسيني، أحد آباء اتفاق الطائف.

حكم النظام السوري مباشرة وبواسطة من سمح بتعيينهم، وكانت أجهزة مخابراته تعتقل من تشاء، تعسفياً، وتبقيه محتجزاً للمدة التي تراها مناسبة، أو لآجال قد يمضي العمر ولا تمضي، من دون أي اتهام أو محاكمة، وفي كثير من الأحيان من دون أن يعرف ذوو المعتقلين مصير أبنائهم. ساوت أساليب النظام القاسية بين جميع اللبنانيين، خصوصاً المسلمين منهم، الذين لم يكونوا يتمتعون حتى بالهامش الضيق الذي تركه السوريون لبعض السياسيين المسيحيين بالتعبير عن ضيقهم مما حل بالبلاد من تعسف وجور.

استطاعت الدولة، بهمة الرئيس رفيق الحريري، على الرغم من فقرها المادي والبشري، أن تشارك في إعادة نهوض الاقتصاد الوطني وفي إعادة وصل خطوط اتصالها الاقتصادي والثقافي بباقي أنحاء العالم. تمكن لبنان شيئاً فشيئاً من استعادة بعض أمجاده، مما أدى إلى ارتفاع ملموس في الدخل الوطني والمستوى المعيشي وانتعاش الاقتصاد والعمران وبداية نهضة ثقافية شاركت فيها مختلف الشرائح اللبنانية. شهد لبنان تقدماً بارزاً في جميع الحقول، ما خلا الحقلين السياسي والأمني، اللذين ظلاّ في قبضة النظام السوري. نما حجم الطبقة الوسطى التي سُحقت خلال الحرب، وارتقى لبنان إلى عداد الدول المتوسطة الدخل. لكن التحديات الاجتماعية ظلت ترهق المواطنين، وظل خط الفقر عالياً.

فشل المجتمع في خلق أحزاب وتنظيمات وقيادات سياسية جديدة تواكب مرحلة النهوض، فكان المشهد السياسي يتقاسمه خلفاء ميليشيات الحرب، وبعض الشخصيات التقليدية، ومعارضة مضطَهدة تتشكل بصورة رئيسية من مؤيدي "القوات اللبنانية" والجنرال ميشال عون. شهد لبنان منذ اتفاق الطائف حتى خروج الجيش السوري في العام 2005 انتخابات شكلية كانت المنافسة فيها بين لوائح انتخابية تدين جميعها، بشكل أو آخر، للنظام الأمني السوري في لبنان، وأبعد عن التمثيل كل حزب أو شخصية سياسية لم تطاوع السوري.

طُبِّقت بعض بنود اتفاق الطائف بما يتناسب ومصلحة النظام السوري، وجُمِّدت الإصلاحات، ومُنع أي تطوير سياسي حقيقي، وكانت معظم القرارات، حتى الصغيرة، تؤخذ من المسؤولين السوريين أو بوصاية منهم. تميزت حقبة ما بعد الطائف بالإبتعاد عن روح الدستور والكثير من نصوصه، وحلّ مكان الصيغة نظام هجين تتعايش فيه مظاهر الحرية والديموقراطية مع الديكتاتورية والاقتصاد الفالت مع الزبائنية في المشاريع، وإتخاذ القرارات على شكل سلال، تحتوي كل منها على خدمات وامتيازات يتقاسمها أرباب السلطة. أصبحت الحكومات المتعاقبة، وأجهزة الدولة، منشغلة بأمور الساعة وتتجلى بمبارزات سياسية صرفة، وأحياناً بطارئ حياتي أو أمني. فشلت الدولة في إعادة اللحمة بين أطرافها، على الرغم من غياب الخصومة في الشارع، وفشلت أيضاً في معالجة معظم الشؤون الحياتية والتنظيمية، مما أدى إلى تهالك قدراتها الإدارية والبنيوية، وإفراغ ملاكها من الموظفين الجديرين والأكفياء، وحتى غير الأكفياء أحياناً، بسبب عجزها في نظام المحاصصة عن تعيين جيل جديد في القطاع العام. هكذا أدى سقوط الصيغة إلى إفساح المجال لسقوط الجمهورية.

أبقى اتفاق الطائف مسؤولية الدفاع عن الوطن بيد الجيش الموضوع تحت السلطة السياسية، ولم يلحظ تلزيمه لأي فريق على الرغم من أن إسرائيل كانت لا تزال تسيطر على مساحة كبيرة من الوطن. لم يدع الطائف إلى ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة. دعا اتفاق الطائف إلى عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا، وسوريا لأمن لبنان. وعليه، فإن لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو بأمن سوريا. كما ان اتفاق الطائف لم يسمح لأي دولة شقيقة أو صديقة بأن تتدخل في شؤونه، أو بأن يصبح لبنان موطئ قدم لها على البحر المتوسط، أو أن يدخل هو أو أحد الأفرقاء فيه في أي حلف إقليمي في مواجهة تكتلات إقليمية أخرى.

وارث الديكتاتورية
بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقيام ثورة الأرز وخروج القوات السورية من لبنان، حصل الانقسام الكبير بين قوى 14 آذار و8 آذار في السلطة. في الشارع، انقسم المسلمون فريقاً سنّياً وآخر شيعياً، كما قاد اصطفاف العماد ميشال عون إلى جانب "حزب الله" إلى إنقسام الشارع المسيحي. ظل المواطنون العلمانيون من دون تمثيل، على الرغم من مشاركتهم الكثيفة في ثورة 14 آذار. انقسمت أصوات هؤلاء في الانتخابات ثلاث فئات: منهم من ناصر 14 آذار واقترع إلى جانبها، ومنهم من انحاز إلى قوى 8 آذار، ومنهم أكثرية، تركت الحياة السياسية.

على الرغم من ضمور الممارسات الشمولية للنظام السوري، إلا ان نفوذ "حزب الله" وتوجيهه السلاح إلى الداخل عرقل العملية الديموقراطية إلى حد يحاكي المرحلة السورية، وفي أحيان كثيرة يضاهيها. ظلت المناكفات السياسية البحتة تطغى على إمكانات إصلاح النظام، أو إيجاد الحلول للأمور المعيشية والإجتماعية والاقتصادية، وأصبح النظام معطلاً بالفعل، يقتصر دوره في غالب الأحيان على إدارة الأزمات وتصريف الأعمال، وظل الخطاب السياسي يتدنى بسرعة من الموقف الجامع الذي أرسي في اتفاق الطائف، إلى السجالات الطائفية والسياسية العقيمة، التي دفعت بمصلحة الوطن إلى الحضيض.

الطائف...ية الجديدة
عندما رأى اللبنانيون أنفسهم كمجموعة أقليات تحت سقف واحد، وأعلنت دولة الأقليات المتحدة، باسم "لبنان الكبير"، كان عددهم يقل عن 600 ألف نسمة. عند الاستقلال، أصبح عدد اللبنانيين نحو مليون ومئتي ألف نسمة. لم يكن البالغون قد تشربوا بعد الانتماء الوطني بالكامل، ولم يكونوا قد حكموا أنفسهم بأنفسهم بعد، بالشكل الذي يُنسيهم جور السلطنة العثمانية وجور الانتداب الفرنسي. كما ان الإختلاط بين الطوائف في كل وحدة جغرافية كان محدوداً. كان من الطبيعي آنذاك أن تكون وحدة الطائفة والزعيم المحلي الملجأ والحامي للمصالح والحقوق، وأن تكون الدولة، أي الآخر، هي الطرف الآخر. أما وقد مضى أكثر من سبعين عاماً على الاستقلال، ونشأت أجيال عدة في كنفه، وتشابكت المصالح والمصائر، وازداد عدد السكان حتى أصبحت العاصمة وحدها تضم من السكان ما ضمّه لبنان بكامله ساعة الاستقلال، فإن الإنتماء الواحد أصبح هو الهم الطاغي. لقد اضمحلت الفروق بين أبناء الطوائف، في المأكل والملبس والثقافة والسكن، وأصبحت التقسيمات الطبقية والسياسية والعقائدية ذات أهمية، وأصبح الهم المعيشي جامعاً. يشير استطلاع للرأي أجرته "مؤسسة أنفوبرو" التي أنتمي إليها، أن اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة (90 في المئة) يعلون المصلحة الوطنية على مصلحة الطائفة وينبذون (80 في المئة) النظام الطائفي ويرونه تهديداً، عوض أن يكون حامياً، لهم ولطوائفهم. هذه النتائج لا تختلف كثيراً بين الطوائف والمناطق والأعمار.

تشير نتائج الدراسة إلى أن النظام الحالي القائم بحكم الواقع لا يتماهى مع تطلعات المواطنين، وأن الوقت قد حان لتغييره برمته وإرساء نظام عماده الدستور واتفاق الطائف في مكانه. لقد أثبت الدستور أنه كان سبّاقاً لعصره، وآن هذا العصر المرتجى. لكن أركان النظام ليسوا مؤهلين أو حتى راغبين بالتغيير وبتطبيق اتفاق الطائف والدستور. وإذا كان المواطنون يرغبون فعلاً بنظام حديث كما جاء في الدستور، فعلى بعضهم التخلي عن الأحزاب الحالية القائمة، وتشكيل كيانات حزبية جديدة، عابرة، بل متخلية، عن الإنتماء الطائفي السياسي. على هذه الأحزاب الجديدة أن تمارس السياسة وفق منهجية تحاكي الدستور، أي أن تعمل وفق برامج عمل محددة وتسمح بالتداول على مستوى قياداتها، وعليها ألا تفتعل توازنات طائفية أو مناطقية، وألا تقتصر عضويتها على النخب، بل أن تسعى إلى إدخال الطبقات الشعبية فيها، أي إنشاء أحزاب حديثة، تناضل حقاً وللآجال البعيدة، لإعادة النظام إلى حيث وضعه الدستور. هذه هي روحية إتفاق الطائف ودستور 1943. هذه هي الطائفية الحقة، أي الإنتساب إلى الطائف عوضاً عن الطائفية السياسية التي لم يعد ثمة من لزوم لها.

الطوائف الجديدة ليست طوائف دينية وإنما هي معتقدات وبرامج سياسية دنيوية تتنافس في تحديد سقوف الضرائب، وفي تأييد مقاربة إقتصادية ما أو معارضتها، وفي البحث عن سبل إشراك الجميع في الدفاع عن الوطن، وفي كيفية إحقاق العدالة الاجتماعية، وفي كيفية تمثيل طموحات المواطن ومصالحه في مجلس النواب، لا في كيفية إيصال الزعيم أو الحزب الطائفي إليه. نعم للطائف...ية الجديدة، أي تطبيق اتفاق الطائف ودستوره!