التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٤
المصدر: ملحق النهار الثقافي
اتفاق الطائف في منظور إقليمي - بول سالم
بعد 25 عاماً على توقيع اتفاق الطائف، لا يزال هناك انقسام حاد في الرأي سواء في داخل لبنان أو خارجه حيال مدى نجاح هذا الاتفاق أو إخفاقه. هل يصلح كنموذج لبلدان أخرى تمرّ في حروب أهلية، أم يجب تفاديه بأيّ ثمن؟

من ناحية، أفرز هذا الاتفاق نظاماً سياسياً مشلولاً، تتجذر فيه الطائفية، وتتعرض فيه السيادة الوطنية للانتهاك المتواصل، وتترنّح البلاد من أزمة إلى أخرى. ومن ناحية أخرى أنهى هذا الاتفاق حرباً أهلية طويلة، وقدّم صيغة للاستقرار، ومكّن من نموّ مجتمع يتمتع بالعيش المشترك وحيّز كبير من الحرية والابداع، وحافظ على قدر من الاستقرار حتى عندما اندلعت حروب أهلية طاحنة في الجوار السوري والعراقي.

بالتأكيد لا يخلو اتفاق الطائف من العيوب في بعض بنوده، وكذلك في الطريقة التي تمّ بها تطبيقها، إلا أن الاتفاق الاساسي على العيش المشترك والتشارك في السلطة أمر جوهري، وفي النهاية يمثّل مخرجاً ونموذجا يحتذى به في كل من سوريا والعراق.

تجدر الإشارة أولاً إلى أن اتفاق الطائف هو "اتفاق"، بمعنى انه صيغة سياسية لم تُفرَض بالقوة من طرف واحد، إنما تم إنجازه من خلال التفاوض والتوافق بين الفئات والأطراف الرئيسيين في البلاد. فالتوصل إلى "الحكم بالرضى" (government by consent) إذا كان يعتبر من المبادئ التي لا اختلاف عليها في المجتمعات الديموقراطية، إلا أنه، وباستثناء لبنان وتونس في الآونة الأخيرة، اللتين توصلتا إلى توافق دستوري من طريق الحوار والتفاوض، لا تزال سوريا ومعظم الأنظمة العربية تُفرَض فيها الصيغ السياسية بالقوة.

أما في المجتمعات المنقسمة طائفياً أو إثنياً كما هي الحال في لبنان وسوريا والعراق، فتوصي العلوم السياسية بالنظام "التوافقي" (Consociational) بدلا من نظام حكم الأغلبية (majoritarian). وترتكز أسس الأنظمة التوافقية على التشارك في السلطة بين المكونات الاساسية للبلاد واللامركزية الموسعة.

حققت صيغة اتفاق الطائف تشاركاً حقيقياً في السلطة في لبنان تمّت من خلاله استعادة نسبة عالية من الاستقرار والمحافظة عليها حتى في الظروف الصعبة التي تمر فيها دول الجوار حالياً. إلا أن هذا التشارك في السلطة تمّت المبالغة فيه حتى أنه لم يعد يوجد تمركز قوي وفعال للسلطة التنفيذية في الدولة، وأدى ذلك إلى إضعاف الدولة بشكل عام، وفقدان القدرة على اتخاذ القرار، وهدد السيادة الوطنية. وكانت اللامركزية عنصراً اساسياً في اتفاق الطائف إلا أن الطبقة السياسية مانعت تطبيقها وفضّلت أن تبقى السلطة منحصرة في ايديها، ما اعاق النمو المتوازن وانتاج النخب الجديدة وتفعيل المساءلة.

اذا نظرنا الى دول الجوار، لرأينا أن العراق عاد الى الانقسام والتقاتل الداخلي عندما علّق الرئيس المالكي العمل بمبدأ التشارك في الحكم. ويعمل الرئيس العبادي الآن على استعادة الاستقرار عبر اعادة بناء الشراكة مع المكوّنات الكردية والسنّية للبلاد. لدى العراق تجربة مهمة في اللامركزية الموسعة في منطقة الحكم الذاتي الكردية في الشمال. وتدرس حكومة العبادي الآن مطالب المحافظات السنّية بمزيد من اللامركزية ومطالب من محافظة البصرة أيضا بمزيد من الحكم الذاتي.

أما في سوريا فلن يعود الاستقرار الى أن يتوافق مؤيدو النظام والمعارضة على صيغة للتشارك في السلطة. حاول مؤتمرا جنيف 1 و2 اطلاق التفاوض حول صيغ التشارك، ويحاول الروس اليوم طرح صيغة للتشارك بين الرئيس الاسد واطراف من المعارضة، ولكن لا تزال آمال التوافق ضعيفة. فقد استغرق الأمر في لبنان 14 عاما من التقاتل العقيم للوصول إلى صيغة معدلة للتشارك في السلطة؛ ونأمل ألا يضطر السوريون الى الانتظار كل هذه السنين للوصول إلى صيغتهم للتعايش والتشارك.

أما في ما يتعلق باللامركزية، فيطرح النظام حالياً اللامركزية كبديل للتشارك في السلطة، الا ان التشارك واللامركزية عنصران اساسيان من النظام التوافقي ولن تغني اللامركزية، مهما توسعت، من التشارك في السلطة المركزية، الا اذا كانت الغاية تقسيم سوريا نهائياً!

يقدّم اتفاق الطائف تجربتي النجاح والفشل معاً في التعامل مع قضية الانتقال من حال الحرب الى حال السلم، وتحديداً في التعامل مع قضية حل المليشيات. فمن جهة، تمّ (وربما بسلاسة غير متوقعة!) حل غالبية الميليشيات التي كانت تتحكم بالبلاد لخمسة عشر عاماً، إلا أن الاتفاق أصيب بشلل بنيوي من ناحية أخرى بسبب الاستثناء في ما يتعلق بـ"حزب الله". كان لاستمرار "حزب الله" كقوة مسلحة في البداية من الشرعية ما يبرره في نظر الكثيرين، وذلك لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، الا انه بعد انسحاب الاسرائيليين في العام 2000 أصرّ الكثيرون على أن يسلّم الحزب سلاحه كما فعلت الميليشيات الأخرى او دمج قواته بقوات الدولة. في حوادث ايار 2008 استدار الحزب الى الداخل وفرض شروطه على المجتمع والدولة بقوة السلاح. ومنذ العام 2011، أدار "حزب الله" ظهره حتى لإسرائيل وتوغل في سوريا لخوض حرب طائفية مدمرة الى جانب نظام الأسد.

تواجه سوريا والعراق تحديات مماثلة في التعامل مع ميليشياتهما المتعددة. يظهر اتفاق الطائف أن حل الميليشيات أمر يمكن تحقيقه لكنه يؤكد أيضاً ألاّ يكون هناك أي استثناء، وأن إعادة بناء السيادة الوطنية تتطلب الاحتكار الكامل من الدولة لاستخدام القوة. يمكن إدماج عناصر الميليشيات في مؤسسات الدولة الأمنية بعد إعادة تأهيل، أو يمكن إعطاء من يرغب من اعضائها الفرصة لبدء حياة جديدة في قطاعات أخرى، كما يمكن ان تتحول بعض الميليشيات، مثل البشمركة في العراق، الى وحدات للحرس الوطني، ولكن تحت سيطرة مؤسسات الدولة.

إن في قصة ولادة اتفاق الطائف أيضاً عبراً في كيفية التفاعل بين المفاوضات الداخلية من جهة، ودور الوساطة الخارجية من جهة أخرى. بدأت المفاوضات في شأن التغييرات الدستورية وأشكال جديدة من تقاسم السلطة في وقت مبكر في لبنان مع الوثيقة الدستورية في العام 1976 واستمرت على نحو متقطع خلال الحرب الأهلية؛ ولكن كانت هناك أيضاً الوساطات الخارجية (لقاءات في رعاية سويسرية في جنيف ولوزان في 1983 و1984؛ والوساطة السورية للاتفاق الثلاثي في العام 1985؛ والوساطة السعودية-الأميركية لاتفاق الطائف للعام 1989) وهي كانت ضرورية عند منعطفات مهمة في الصراع.

اكتسب العراقيون خبرة قيّمة في التفاوض الداخلي في السنوات الاخيرة، لكنهم أيضاً قد يكونون في حاجة الى مساعدة أو وساطة خارجية من أجل إجراء اتفاقات نهائية في شأن الفيديرالية، وإنشاء وحدات الحرس الوطني، والاتفاقات النهائية على عائدات النفط ومستقبل كركوك. تجنّب النظام السوري منذ بداية الانتفاضة اتخاذ أيّ خطوات نحو التفاوض الداخلي حول التشارك في السلطة، واصفاً كل معارضيه بالإرهابيين، ومصرّاً على الحل الأمني. أدت هذه الاستراتيجيا إلى إضعاف جماعات المعارضة التي كانت تنادي بالحل السياسي، وعززت مواقف المجموعات المتشددة التي أصرت مثل النظام على الحل الامني او العسكري، وهذا خلق الظروف لصعود الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وجبهة "النصرة".

هيأت محاولات الوساطة الخارجية الظروف لمحادثات جنيف 1 و2؛ ولكن ادى رفض النظام مناقشة أي تغيير سياسي جدي الى فشل تلك المحادثات، وادى تدهور العلاقات الاميركية الروسية بعد ازمة اوكرانيا الى توقف هذا المسار. اما موسكو، فأطلقت مبادرة جديدة في الفترة الأخيرة للوساطة بين النظام والمعارضة. هل تنجح المبادرات في سوريا والعراق بالوصول الى صيغ توافقية ومستقرة للحكم؟ قد نرى نجاحاً نسبياً في العراق في الأشهر المقبلة، اما في سوريا فلا يزال التوافق بعيد المنال.

اذا عدنا إلى تقييم التجربة في لبنان، في ما عدا قضية "حزب الله" – الذي فُرض بقاؤه من الخارج، من قبل سوريا وايران - فإن ضعف أداء لبنان في ظل اتفاق الطائف قد يرجع إلى حد كبير إلى سوء اداء الطبقة السياسية البائسة وإلى أسلوب قيادتها وليس في الضرورة إلى خلل فادح في النظام السياسي نفسه. فاذا اخذنا، على سبيل المقارنة، بلدا توافقيا آخر - سويسرا مثلاً – حيث هناك الكثير من تقاسم السلطة والفيديرالية، نرى انه يعمل بشكل رائع؛ فبالله عليك لو نقلنا الطبقة السياسية اللبنانية الى سويسرا لأفسدت النظام وخرّبت أداءه السلس في غضون أسابيع!

نعم، ان النظام السياسي اللبناني بحاجة ماسة الى عدد من الإصلاحات الكبرى: تطبيق اللامركزية، وصياغة قانون جديد للانتخابات، وتعزيز السلطة القضائية، وإدماج "حزب الله" تحت سلطة الدولة، وانشاء آليات فعالة لمكافحة الفساد، واعادة هندسة السلطة التنفيذية لجعلها أكثر فعالية الخ. ولكن ما لم يبدأ المجتمع في تعديل أدائه في اختيار قادته السياسيين ولمحاسبتهم، فإن أفضل الإصلاحات في العالم لن ترفع بمفردها من مستوى الأداء السياسي في البلاد.

إن مسألة القيادة السياسية مسألة جوهرية أيضاً في العراق وسوريا. فقد قاد كل من المالكي والأسد بلادهما إلى الحرب الأهلية. وقد تمت تنحية المالكي وشرع رئيس الوزراء الجديد في بداية جيدة لإعادة إدماج كل الأطراف في السلطة. بينما في سوريا لا يُظهر الأسد أي استعداد نحو التفاوض أو التنحي. ولم تظهر قيادة قوية على جانب المعارضة تستطيع أن تقود المصالحة الوطنية وتبعد الجماعات الجهادية المتطرفة. ويبقى الشعب السوري هو الذي يدفع الثمن الباهظ لاستمرار الأزمة.

ان واقع الحال أن لبنان وسوريا والعراق هي مجتمعات تشوبها انقسامات حقيقية. ولا شك أن تلك الانقسامات تخلق صعوبات وجودية في الحياة السياسية، خصوصا عندما تصر تلك المجتمعات على الانتقال من الديكتاتوريات إلى الأنظمة السياسية الديموقراطية. إلا أن هذا التنوع، إذا تأطّر ضمن نظام سياسي واجتماعي مستقر، يمكن أن يكون أيضاً مصدر غنى، ومصدراً للانفتاح السياسي والثقافي ويؤمّن حيّزاً واسعاً من الحرية المجتمعية على المدى الطويل.

فالتنوع لعنة وبركة في آن واحد؛ اذا ساءت إدارته أدى الى التقاتل والحرب الأهلية، واذا احسن ضبطه ضمن نظام توافقي جامع، أصبح عنصر ثراء وانفتاح.

دعونا، لمناسبة مرور 25 عاماً على اتفاق الطائف، أن نقدّر ما أمّن من عيش مشترك وانفتاح، وأن نؤكد لأخوتنا وأخواتنا في سوريا والعراق أنه لا بديل من العيش المشترك والتشارك في السلطة، حتى لو بقي مسار بناء الدولة الحديثة والحكم السليم والمجتمع المسؤول في لبنان والمشرق مساراً طويلاً...