التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٤
المصدر: ملحق النهار الثقافي
المسلّمات الكاذبة وشروط الخلاص - سمير فرنجية
بعد ربع قرن على اتفاق الطائف، بات من الضروري من أجل تطوير النقاش حول هذه الوثيقة التأسيسية أن نتحرر من عدد من المسلّمات الكاذبة التي تعطّل كلّ بحث جدي حول هذا الاتفاق. المسلّمة الكاذبة الأولى أن هذا الاتفاق لاقى تأييداً من المسلمين ورفضاً من المسيحيين وأنه تالياً اتفاق طائفي يؤمّن مصالح البعض على حساب البعض الآخر، الأمر الذي يبرر رفضه.

في حقيقة الأمر، لاقى اتفاق الطائف معارضةً من قوى اسلامية عديدة، منها المجلس المركزي لحركة "أمل" الذي سجّل رفضه للاتفاق "لأنه في أحسن الأحوال ترقيع لواقع طائفي هو علة هذا النظام" (النهار – 3 تشرين الثاني 1989)، ومنها أيضاً "المقاومة الأسلامية" التي اعتبرت على لسان السيد عباس الموسوي "أن الاتحاد السوفياتي وأميركا اتحدا على اتفاق الطائف كما اتحدا على اتفاق 17 أيار... هذا هو الطائف، مؤامرة دولية كبيرة يريدون أن يفرضوها علينا" (النهار – 14 تشرين الثاني 1989). من بين هذه القوى أيضاً، "الجماعة الاسلامية" التي جددت تأكيدها "أن أي حل يراد له أن يسلك طريقه الى التنفيذ... لا يمكن أن يتجاوز إلغاء كل الامتيازات الطائفية من القمة الى القاعدة" (النهار – 21 تشرين الأول 1989).
لعلَّ أصدق تعبير عن هذا الواقع المشار إليه، وخصوصاً في الأوساط الشيعية آنذاك، الشهادة التي قدّمها الإمام محمد مهدي شمس الدين في "وصاياه"، حيث يقول: "ولا ننسى أن هذه الصيغة التي اعتبرها البعض موقتة، ونحن اعتبرناها موقتة في حينه، حينما أُعلن الاتفاق وووجِهَ بمعارضة كبيرة داخل الطائفة الشيعية... أنا رفعتُ شعار أنه اتفاق الضرورة. والآن أقول: هو ليس اتفاق الضرورة. هو اتفاق الاختيار، وهو اتفاق مناسب لطبيعة لبنان، لأنه يوافق ويحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدم والازدهار" (الوصايا ص 35).

هذا في الجانب الاسلامي. أما في الجانب المسيحي، فالاعتراض الوحيد جاء من العماد ميشال عون في حين أن الكنيسة المارونية وعلى رأسها البطريرك نصرالله صفير ركّزت جهدها على وقف دوّامة العنف، التي كانت تشتدّ يومًا بعد يوم حتى باتت تهدّد المصير الوطنيّ برمّته. "فعملت من هذا المنطلق – والكلام هنا للمجمع البطريركي الماروني - على تشجيع الساعين إلى إيجاد الحلول لإنهاء الحرب، وساهمت في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف. ونظرت الكنيسة إلى هذا الاتفاق على أنّه مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية وتثبيت أولوية العيش المشترك على كل ما عداه".

المسلّمة الكاذبة الثانية أن الطائف جاء ليعيد النظر في حصص الطوائف في السلطة، فانتزع صلاحيات من المسيحيين ليعطيها للمسلمين.

الحقيقة أن هذا الاتفاق وضع حداً للمنطق القائم على توزيع الحصص بين الطوائف، وذلك بإلغائه المعيار العددي الديموغرافي الذي طالما استخدم سلاحاً في الصراع الطائفي، وبإقراره المناصفة على صعيد تمثيل المسيحيين والمسلمين في السلطة. هذه المناصفة لا تعني تكريس "تقاسم" السلطة في ما بين الطوائف، بل ترمي في مرحلة أولى الى تهدئة نفوس الطوائف من خلال تمثيلها الرمزي في السلطة. هذا الأمر يسمح، في مرحلة ثانية، بإلغاء القيد الطائفي المعوق لعمل الدولة والمضرّ بالعيش المشترك، وذلك بإنشاء هيئة مستقلة، هي "مجلس الشيوخ" الذي تتمثل فيه الطوائف بصفتها تلك. بذلك يصبح الوزن الديموغرافي، أو التحالف مع الخارج تعويضاً عن النقص العددي، غير صالح للاستخدام من أجل تعديل حصة الطائفة في الدولة. من هذا المنظور لا تعود الطوائف في حاجة الى اختراع "مشاريع خاصة"، ولا يعود ثمة موضوع للصراع في ما بينها على هذا الصعيد. وعليه، فإن "توكيد الذات الطائفية" يصبح ممكناً بطريقة وحيدة هي المنافسة في إغناء العيش المشترك الذي، بدوره، يمنح الطائفة قيمة أكبر بكثير مما يمنحها أيّ مشروع خاص.

بكسره المنطق الأقلّوي، يحرر اتفاق الطائف اللبنانيين من "عقدة الخوف من الآخر" التي تقع في أصل كل السياسات الطائفية. بذلك لا يعود الآخر خصماً ينبغي مواجهته باستمرار، لأنه يمثّل خطراً وجودياً دائماً على الذات، بل يصبح عنصراً مكمّلاً للذات وضرورياً لها. إن هاجس الديموغرافيا لدى المسيحيين والدروز، وعقدة الاضطهاد التاريخي لدى الشيعة، وعقدة الكبت لدى السنّة، لشعورهم بأنهم أكثرية في العالم العربي وواحدة من أقليات ههنا...، هذه العقد المعلومة كلها لا تعود، من هذا المنظور الجديد، المحرّك الأساسي للتاريخ اللبناني، حيث تحاول كل طائفة أن تضع يدها على الدولة، أو على قسم منها، بذريعة توفير "ضمانات" لوجودها.

المسلّمة الكاذبة الثالثة أن اتفاق الطائف جاء ليؤمّن غطاءً شرعياً للاحتلال السوري للبنان.

في حقيقة الأمر جاء اتفاق الطائف ليضح حداً لمشروع النظام السوري الهادف الى فرض هيمنته على لبنان، الذي جسده الاتفاق الثلاثي الذي عقد في دمشق في العام 1985. حاولت القيادة السورية منع إنجاز هذا الاتفاق، ثم تركت للعماد ميشال عون الرافض الاتفاق مهمة إسقاطه، فيما تولّت هي اغتيال رينه معوَّض بعد انتخابه رئيساً للجمهورية بسبعة عشر يوماً.

أما القيادة السورية، التي كانت قد وقفت إلى جانب التحالف الغربي ضد صدام حسين في حرب الخليج الأولى، فقد حصلت من الأميركيين على الضوء الأخضر باقتحام قصر بعبدا في 13 تشرين الأول 1990.

هكذا اعتبرت القيادة السورية أن حُلمها بحكم لبنان قد بات في متناول اليد. وقد أعطى الرئيس السوري حافظ الأسد إشارة البدء، بإعلانه أن "اللبنانيين والسوريين شعبٌ واحد في دولتين".

عمل النظام السوري على إفراغ اتفاق الطائف من جوهره ومحتواه بسرعة فائقة.

ثمة إجراءات تمييزية اتُّخذت ضد المسيحيين. فنَزْعُ سلاح الميليشيات الذي نصَّ عليه اتفاق الطائف طُبِّق بصرامة في المنطقة المسيحية، بينما احتفظ "حزب الله" و"حركة أمل" بترسانتهما المسلحة، بعدما تمَّ رفعهما من مرتبة "الميليشيا" إلى مرتبة "المقاومة ضد اسرائيل"! أما قانون التجنيس فقد طُبّق بصورة كيفيَّة واعتباطية، فضلاً عن الخلل الفادح في التوازن الاسلامي – المسيحي بين المجنَّسين الجدد.

أما انسحاب القوات السورية إلى البقاع بعد سنتين من إقرار التعديلات الدستورية - كما نصَّ اتفاق الطائف أيضاً – فقد أُرجئ لأجل غير مسمَّى.

* * *

إن التحرر من هذه المسلّمات الكاذبة هو شرط ضروري لمواجهة العقبات التي تواجه اتفاق الطائف والمتمثلة في أمرين أساسيين:

الأمر الأول أن اتفاق الطائف لم يفرز قوى تستطيع وضعه موضع التنفيذ والانطلاق منه للتأسيس لمرحلة جديدة. فاذا أجرينا مقارنة بسيطة بين اتفاق الطائف وميثاق العام 1943، لوجدنا أن "الطائف" يتفوّق على "الميثاق" من حيث النص، فهو يتضمن شرحاً مفصلاً للأمور الخلافية، بينما لا يتضمن "الميثاق" سوى مبادئ عامة، وهو يمثل خطوة متقدمة بالنسبة الى الميثاق. لكن هذا الأخير يتفوق على الطائف في أمر أساسي وهو أنه أوجد في السياسة كتلة تاريخية أسست لمرحلة جديدة في تاريخ لبنان، بينما عجز اتفاق الطائف عن فرز قوى جديدة وبقي محكوماً بالقوى التي جاء لينهي دورها.

إن المشكلة ليست في مضمون اتفاق الطائف، بل في الترجمة السياسية لمضمونه. السبب في سوء الترجمة السياسية يعود الى طبيعة الأداة السياسية التي أخذت على عاتقها تطبيق هذا الاتفاق، ونقل البلد من حال الحرب الى حال السلم. إنها أداة ملتبسة مكوّنة من أجزاء متناقضة آتية من تجارب مختلفة لا تربط بينها رؤية مشتركة ولا حتى مصالح مشتركة. فالجزء الأساسي من هذه الأداة موسوم بتجربة الحرب، لا يستطيع تخطي منطقها على رغم أنه أعطي فرصة تأهيل نفسه ليكون قادراً على مواكبة عملية إعادة بناء الدولة والمجتمع. لكنه عجز عن تطوير نفسه وعاد ينتج ما تعوّد انتاجه في السنوات الماضية من تجييش طائفي وتقاسم للدولة.

الأمر الثاني أن اتفاق الطائف لم يفرز حتى الآن رؤية جديدة وثقافة جديدة. فاذا عدنا للمقارنة مع تجربة الاستقلال، وجدنا أن هناك ثقافة سياسية مشتركة كانت تجمع بين أركان الكتلة الاستقلالية، ويكفي للتدليل على أهمية الثقافة السياسة في تلك المرحلة أن نذكّر بأسماء ميشال شيحا، ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية، جورج نقاش وغيرهم.

اتفاق الطائف لم يفرز ثقافة جديدة. وبقي اللبنانيون يتخبّطون في حلقة مغلقة، سجناء تصورات سياسية وثقافية واقتصادية تنتمي الى مرحلة تجاوزها الزمن. ولأن هذه المشكلة لم تُطرَح كما هو مطلوب، فالسياسة لم تلمس من واقع البلاد سوى الأمور التي تردّها الى ماضٍ تعرفه، وذلك هرباً من مستقبل لا تستطيع التعامل معه.

إن تجاوز هذه العقبات أمر ضروري اليوم لبناء دولة العيش المشترك التي لا يمكنها الا أن تكون دولة مدنية، بمعنى أنها:

- دولة غير طائفية، لا تمنح حقوقاً إلا للمواطنين، على قاعدة المساواة والعدالة اللتين بدونهما يغدو التنوع مصدر صراع يستجرّ عنفاً ينتهي بدوره الى إلغاء التنوع.

- دولة غير علمانية – بالمفهوم القديم للعلمنة -، لا تجد نفسها في حالة صراع مع طوائفها، ولا تُقْدِم على اتخاذ قرارات من شأنها تهديد وجود الطوائف أو الإضرار بإرادتها في العيش معاً.

إن نظاماً ديموقراطياً، يضمن مساواة المواطنين الأفراد أمام القانون، كما يضمن احترام التعدد الطائفي، هو وحده القادر على رفع القيد الطائفي الذي يُلقي بثقله على مستقبلنا الوطني، وهو القادر على إقامة دولة تتمتع بسيادة فعلية، فتصون الاستقلال بوضع حدٍّ للتدخلات الخارجية التي تستدعيها الصراعات الطائفية بصورة دورية. السيادة أيضاً هي أن تتصرف الدولة بإرادة حرة، تحت سقف القانون، فتحرر اللبنانيين أفراداً وجماعات من مفهوم "فيديرالية الطوائف" وتعيد الاعتبار الى الأبعاد الثقافية للتعدد الطائفي، بوصفه نوافذ حضارية على عوالم مختلفة، لا كهوفاً تقبع فيها الطوائف.

ويحدد اتفاق الطائف سلسلة خطوات تساعد على الانتقال نحو دولة مدنية:

- الخطوة الأولى هي في مجال الإدارة التي تشكل من خلال الزبائنية الطائفية التي تمارسها القوى الطائفية المصدر الأساس لتوليد الطائفية السياسية. ينص الاتفاق في هذا المجال على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها التي توزع مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة.

- الخطوة الثانية هي في المجال السياسي حيث ينصّ الاتفاق على وضع قانون جديد للانتخاب على أساس المحافظة. هذا التدبير له أهمية بالغة. فالدائرة الانتخابية الجديدة ستكون مختلطة طائفياً مما يفرض على المرشحين انتهاج خط الاعتدال كما أنها ستكون موسعة، الأمر الذي سيدفع إلى تشكيل تكتلات سياسية مختلطة. كذلك ينص الاتفاق على إقرار اللامركزية الادارية إفساحاً في المجال أمام مشاركة أوسع للمواطنين في الشأن العام.

- الخطوة الثالثة هي في المجال التربوي حيث ينصّ الاتفاق على توحيد الكتاب في مادتَي التاريخ والتربية الوطنية.

- الخطوة الرابعة هي في المجال الاقتصادي- الاجتماعي حيث أقرّ الاتفاق وجوب انشاء مجلس اقتصادي- اجتماعي محرر من القيد الطائفي يتمثل فيه اللبنانيون بحسب موقعهم في عملية الانتاج.

- الخطوة الخامسة هي في مجال التنمية حيث ينص الاتفاق على اعتبار "الانماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركناً اساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام". وهذا أمر مهم لأن هذه المسألة شكلت مادة أساسية في التعبئة الطائفية.

شرط السلام اللبناني
إن السير في اتجاه بناء دولة مدنية على الأسس التي وضعها اتفاق الطائف هو شرط أساسي لسلام لبنان.
فعلينا إعادة بناء حياتنا المشتركة بشروط الدولة الجامعة، لا بشروط طائفة أو حزب سياسي أو ميليشيا مسلحة. لهذه الغاية، علينا أن نعيد الاعتبار إلى الدولة، بوصفها صاحبة الحقّ الحصري في امتلاك القوة المسلحة واستخدامها. كما علينا أن نحرّرها من القيد الطائفي الذي يعطّل إلى حد بعيد قيامها بواجباتها الأساسية. وفي السياق نفسه علينا أن نعيد الاعتبار الى السياسة، فنحررها من الاختزال بأحزاب طائفية ومذهبية.

ومن أجل ذلك يجب أن نكفَّ عن المطابقة بين الطائفة والحزب السياسي الذي يدّعي تمثيلها والنُطقَ باسمها، بحيث لا نحمّل الطائفة بأسرها وزرَ الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها هذا الحزب أو ذاك. فهذه العادة خطيرة جداً، لانها تؤدي بالضرورة إلى توليد عنف جديد... ولو بعد حين. حسبُنا أن نتذكّر النتائج البائسة لتلك المطابقة التي أجريناها بين الطائفة السنّية والمقاومة الفلسطينية، أو بين الطائفة المسيحية واسرائيل، جرَّاء الخيارات السياسية لبعض القوى والأحزاب التي لا يمكنها ولا يحقّ لها اختزال طوائفها بأيّ حال من الأحوال. لعلَّ أخطر ما يُمكن أن نُقدِم عليه اليوم هو أن نكرر الخطأ ذاته مع الطائفة الشيعية.

لتفادي تكرار هذا الخطأ القاتل علينا أن نتحلّى بالشجاعة الكافية للاعتراف بمسؤوليتنا المشتركة عن الحروب التي دمّرت بلدنا، لأننا جميعاً لجأنا إلى العنف، في وقت أو آخر، كما استعنّا بقوى خارجية بعضنا على البعض الآخر؛ وبذلك تخلّينا عن سيادتنا واستقلالية قرارانا الوطني.