التاريخ: كانون الأول ٢٩, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
عن سورية بلا رجال... - عمر قدور
ليس خبراً مهماً، مقارنة بغيره من أخبار سورية، منعُ الشبان والرجال السوريين المولودين بين 1972 و1995 من مغادرة البلاد، من دون موافقة من شعبة التجنيد تُبيّن أنهم غير مطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية. قبل ذلك أصدر النظام قرارات عدة، بعضها وضع قيد التنفيذ بلا إعلان، منها مثلاً إلزام الأطباء دون سن الخمسين بالحصول على تصريح من شعبة التجنيد، إذا قرروا السفر، وأيضاً إعداد لوائح بثلاثين ألف مطلوب للخدمة الاحتياطية فقط في القسم الذي يسيطر عليه من حلب. كل القرارات الشبيهة فُسّرت بالنقص العددي الذي يعانيه النظام نتيجة استنزاف قواته في المعارك، وهو تفسير صحيح، لكن الأخطر في مجمل الآثار المستقبلية على الشريحة العمرية الفعالة في سورية.

الفئة المستهدفة، كما هو واضح، هي التي يُفترض بها حمل عبء النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي. من هذه الفئة تحديداً تشير التقارير إلى مقتل ما يقارب نصف مليون شاب، إما في المعارك أو تحت القصف أو في معتقلات النظام، وعليها أيضاً وقعت نسبة كبيرة من الإعاقات الجسدية والنفسية في السنوات الثلاث الأخيرة، فضلاً عن أنها الفئة التي «بسبب كل ما سبق» هي الأكثر نزوحاً خارج البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن قرارات منع السفر تؤدي مفعولاً عكسياً، إذ تسعى الفئة المستهدفة إلى الالتفاف عليها عبر الفساد، وتُفاقم تالياً من نزوحها، هكذا على سبيل المثال بلغ شحّ الأطباء في أماكن سيطرة النظام حداً غير مسبوق، وبلغت نسبة الهاربين من الخدمة الإلزامية حداً غير مسبوق حتى في بيئات تُصنّف مؤيدة ولم تشهد ظاهرة التخلف عن الالتحاق بالجيش من قبل.

النظام بقراراته يضع المستهدفين أمام خيارين، فإما المشاركة في حربه أو مغادرة البلد، ويُذكر أن حزب الاتحاد الديموقراطي فرض نوعاً من التجنيد الإلزامي أيضاً في المناطق الكردية، ما تسبب في نزوح عدد كبير من الشبان المتبقين فيها، وسبق لبعض الفصائل المعارضة في غوطة دمشق، على رأسها جيش الإسلام، إعلان التجنيد الإلزامي في مناطق سيطرتها، القرار الذي لم يدخل التنفيذ الجاد لكن يُحتمل ألا تختلف آثاره إلا بسبب الحصار الخانق الذي يفرضه النظام ويمنع الراغبين من المغادرة.

في كل الأحوال، يتم تغليب مقتضيات الحرب على ما عداها، وفي المقدمة تغليبها على اعتبارات الحرية الشخصية، لكنْ إلى جانب هذا تماماً يُقضى على الحد الأدنى من المقومات الاقتصادية للعيش بسبب الخيارين المذكورين، وهي ضربة تكاد تكون قاصمة ونهائية في ظل المعطيات الحالية، إذ توزّع مستهدفيها بين قتيل محتمل ونازح لن يعود.

الدراسات القليلة عن الخسائر السورية منذ انطلاق الثورة، بما فيها تلك الصادرة عن منظمات دولية، تلجأ إلى تخمينات تحاول مقاربة الواقع، لكن أيّاً منها لا يشير إلى هذا النوع من النزيف البشري والاقتصادي تخصيصاً له من أزمة النزوح والإبادة ككل. إذ من المحتمل جداً، في مجتمع كان يُصنّف شابّاً، أن يخسر ميزته هذه نهائياً مع توقف الحرب، أي في الوقت الذي سيكون في أمسّ الحاجة إليها لإعادة الإعمار. ومن المحتمل جداً، في حال طال أمد الصراع، أن تحتاج سورية إلى ما لا يقل عن مرور جيلين لتعويض النزيف البشري الهائل من شبابها.

الملاحظ على هذا الصعيد أن شحّ الدراسات وأرقامها المتفائلة قياساً إلى الواقع ناجم عن تسييسها. فالمنظمات الدولية بذريعة فقدانها مصادر موثوقة للمعلومات لا تريد الوصول إلى إعلان سورية منطقة منكوبة بما للإعلان من تبعات، ولا تريد التعاطي مع الآثار المستدامة للصراع على «أمل» بقائه حالة طارئة. أما النظام فليس من مصلحته الكشف عن الأرقام التي يملكها أمام مؤيديه، في حين تتراوح هيئات المعارضة بين التقليل من شأن الخسائر لتشجيع الداعمين وبين المبالغة أحياناً من باب التسييس الفاقع.

التقليل من هول الكارثة هو من الآليات المشتركة بين أطراف عدة، وهو يضمر التلميح إلى غنى الموارد البشرية على نحو مبالغ فيه جداً، فضلاً عن حساسيته الأخلاقية المتدنية تجاه القتلى.

من جهة أخرى، يتعاطى أولئك مع قضية النزوح بصفتها حدثاً طارئاً سينتهي مع انقضاء الحرب، بينما تدل تجارب أقل بؤساً على عدم عودة النازحين إلى بلدانهم تلقائياً بعد انتهاء الصراع، ومن المرجح ضمن الفئة العمرية المعنية ألا تعود سوى نسبة ضئيلة جداً بعدما وطنت نفسها في بلدان النزوح. تنبغي الإشارة إلى أن هذه الفئة هي الأقل نسبة ضمن المخيمات لأنها تحظى بفرص خارجها، إما بموجب الكفاءة أو كقوة عمل في مهن لا تتطلب المهارة، وفي الحالتين فعودتها غير متوقعة إلى بلد منهار.

يمكن وصف ما يحدث الآن، وما لم تظهر آثاره الكلية بعد، بعملية تصحّر اقتصادي كبرى حتى في مناطق سيطرة النظام المستقرة نسبياً. فانتزاع قوة العمل الأساسية أدى إلى تدهور كبير على المستويين الصناعي والزراعي في البيئات التي لم تنل منها الحرب مباشرة، والأخطر أن ذلك الانتزاع ترافق مع نمط اقتصادي مليشيوي صنعه النظام بثقافة التشبيح والسلب. بهذا المعنى، فالتدهور لن يكون عارضاً وموقتاً لترافقه مع تدهور قيمي يرى في القوة السبيل الأقصر إلى الثراء، ومعالجة هذا الواقع ستكون عسيرة وطويلة أسوة بعمليات مكافحة التصحر، وستقتضي العمل الشاق على إعادة تأهيل العامل البشري أسوة بتأهيل المصانع أو الأراضي الآخذة بالتصحر بفعل الإهمال وسياسة الأرض المحروقة.

ما يزيد اللوحة سوداوية وضع الأطفال الذين يُفترض بهم لاحقاً سدّ الفراغ. فالجيل الحالي منهم موزّع بين مخيمات اللجوء وأماكن النزوح الداخلي، والنسبة الغالبة منهم لا تتلقى الحد الأدنى من المهارات التعليمية أو الخدمات الضرورية، ويصح الجزم بأن الأطفال في مناطق سيطرة النظام ليسوا في حال جيدة أيضاً من هذه الناحية، أي أننا أمام جيل شاب قادم بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل، إذا كانت عودة قسم كبير منه إلى البلد متاحة. هذه سورية التي لا يكترث العالم بـ «صندوقها الأسود»، ويطالب من نجا فيها من محرقة الأسد بالتطوع لمحاربة الإرهاب.