التاريخ: كانون الأول ٢١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة القدس العربي
الدين في المجتمع أم العكس؟ - احمد بيضون
فرَض إلحاحُ المحنة الكبرى التي تعصف بمجتمعات المجال العربي من شرقها إلى غربها، نوعاً من البحث المحموم، المستعجلِ الإفضاءَ إلى نتائج، في بواعث هذه الكوارث وفي كيفيات تشكّلها واستشرائها وفي ما ينبغي أن يكون عليه سعيُ العاملين على بلوغ المخارج ورسمُ السبل التي يكون بسلوكها صلاح المستقبل. وقد كان لزاماً أن تحضُر مطالعاتٌ ومقترحات تتناول القريبَ من الأسباب والمستعجَلَ من الإجراءات. ولكنّ تصدُّر الدين ساحةَ الصراع الجاري في الأعوام الثلاثة الأخيرة فرَض على الناظرين في الحاضر والمستقبل أن يَمدّوا البصرَ إلى قرون ماضية، بعيدة وقريبة. فإن من طبائع الدين أن يحفظ ماضيه ماثلاً في حاضره على نحوٍ قد لا تدانيه، في شدّته ومباشرته اللازمنية، منظوماتٌ أخرى من قبيل الفلسفة مثلاً أو الشرع الوضعي.

فكان أن راحَ كثيرون بعضُهم من أهل الصناعة وبعضهم اختاروا انتحالَها أو اضطرّوا إليه، إلى البحث في المصادر الدينية للجماعات الضالعة في الصراع وإلى محاولاتٍ متنوّعة المداخل لمجادلة هذه الجماعات في قيمة مصادرها واستقامة ما تُرتّبه على الدين من إجراءات وتصرّفات. غَلَبَت هذه المقاربةُ الجدالية، المعتدّة بالمفردات الدينية إذن، على التناول النقدي للجماعات المتشدّدة ولما تقول وتفعل، وبدا أن «إفحامَ» الناطقين بألسنةِ هذه الجماعات هو المهمّة التي يترتّب على حسمها مصير المواجهة. لا ريب أن في هذا التوجّه استعادةً لثقة الدين نفسه بفاعلية الدعوة والموعظة. ولكنّ هذا التوجّهَ يهمل مسألةً نعتبرها المتصدّرة هي مسألة ظهور هذه الجماعات، في الساحة، في زمنٍ بعينه وفي مجتمعاتٍ بعينها، ثم تمتّعِها بحظوةٍ بعينها في تلك المجتمعات. وعلى صعيدٍ أعمّ أو أبعد مدىً وأوسع نطاقاً، يهمل هذا التوجّهُ مسألةَ العلاقة بين الإسلام، مذاهبَ ونِحَلاً، وبين أحوالِ المجتمعات التي تعصف بها أو تهدّد باقتحامها المحنةُ الجارية.

والحال أنه، مع شدّة الحاجة إلى الاحتياط والتأنّي في هذا الميدان، يَرْجَح عند المتأمّل في تاريخ المذاهب الإسلامية وعلاقتها بأزمان نشأتها وبيئاتها وبأحوال الجماعات التي نشأت فيها، على اختلاف وجوهها، أن الدينَ كان يتبع تنوّعَ الظروف وتحوّلاتِها ويخضع لإلزاماتها أكثرَ بكثيرٍ ممّا يُمْليها… وأن الجماعاتِ كانت تُطَوِّعه أكثرَ بكثير ممّا كانت تطيعه.

وقد أورثَ ذلك الإسلامَ توزُّعاً وتناقضاتٍ لا حصرَ لها ولا حدّ وحمَلَه على الأخذ بالأشياء وبأضدادها تبعاً للبيئة وللظرف ولموروث الجماعة المعنية. فيَعْتمدُ ما يناسبُ هذا كلَّه من أحكامٍ، مقدّساً الشيء وخلافه، ويدخُل في ما يمليه التشتّتُ والتناقضُ في هذا كلّه من صراعاتٍ وحروب.

وإذا كانت حالة الإسلام هذه تجد لها سنداً في حالاتٍ أخرى يتناولها علمُ اجتماع الدين، من راهنٍ وتاريخي، جازَ القول، فيما نرى، بغلبة الخطإ على تعيين المهمّة الرئيسة في مواجهة التشدّد الديني على أنها «إفحام» المتشدّدين بإظهارِ سَماحةِ الدين واتّساعه لمسالكَ متغايرة، ناهيك باتّساعه، في دياره، لمن هم على مذاهبَ في الاعتقاد تخالفه.

تلك مهمّةٌ لها أهلها ولا ريبَ في ضرورة اضطلاعهم بها. ولكن موضعَ الحسم بعيدٌ عن هذه الساحة. إنه في استطلاع الأوضاع الاجتماعية التاريخية التي تحمل كلّ جماعةٍ من أهل الدين على الأخذ بصيغةٍ بعينها لهذا الأخير. وهو في النظر في كيفيّات المعالجة المناسبة لهذه الأوضاع وفي إمكانات البناء على الراسخ منها أيضاً.

ذلك أَوْلى بالنظر والعمل من السعي إلى «إفحام» الجماعات، إذن، ومن الركون إلى جدلٍ قد يحيي قديماً أو يأتي بجديدٍ ينزل به إلى حَلَبة الصراع العَقَدي… فإن التبشير بالجديد أو بالقديم لا يُحتمل أن يلقى غير الرفض عند من لا يساير حاجاتِهم، فضلاً عن أن حسْمَ الصراع، على هذا الصعيد، يبقى، مع توجُّب خَوْضِه، متعذّراً كلّ التعذّر. نقول هذا غيرَ قاصدين، إذن، إلى استبعاد مجادلة المجتهدين في اجتهادهم أيّاً يكن.

… وصفوة القول أن تاريخ المجتمعات الإسلامية أرحب بكثير من تاريخ الدين الإسلامي أو المذاهب الإسلامية. ولا يجاوز الثاني أن يكون وجهاً متباين الحضور من وجوه الأوّل ولا يردّ الأوّل إلى الثاني بحالٍ.

فإن الدين لا يستوي، في التاريخ الفعلي، معياراً عامّاً معتمداً دون غيره في سلوك الأفراد والجماعات إلا جزئيّاً لجهة الأغراض واستثناءً لجهة الأوقات. ويختلف هذا الأمر كثيراً، في درجته ومضامير تَحَقّقِه، باختلاف الأمكنة والأزمنة… وتُمازِجُ المعيارَ الديني، على الدوام، معاييرُ أخرى مختلفة المصادر وتؤثّر فيه تفعيلاً أو تعطيلاً لأحكامه أو تبديلاً فيها وتتأثر به بدورها، بطبيعة الحال.

ذاك ما ينبغي بقاؤه ماثلاً لعين الدارس عند البحث في مستقبل المجتمعات التي تتّخذ الإسلام عنواناً وفي إمكانات الفعل في هذا المستقبل بما في ذلك إمكانُ إصلاحٍ ديني يكون له قبولٌ ذو معنىً، في هذا أو ذاك من تلك المجتمعات، وحظٌّ من الصمود.

والواقع أن هذه الكثرة في معايير العمل، من فرديّ وجماعيّ، وهذه الجزئية أو التقطّع في حضور الدين بينها هي ما يجعل بعضَ القيّمين على أمور الدين أو المتصدّين لما يحسبونه حمايةً له، في كلّ زمان، يشعرون بضرورة إصلاحه. وهي ما يجعل بعض هؤلاء ينبذون من تاريخه قروناً وعوالم بحالها. فهم قد لا يستبقون منه إلا ردحاً قصيراً من الزمن وبقعةً محدودةً من الأرض ملازمتين لنشأته وعدداً محدوداً من المؤمنين هم الذين شهدوا ميلاده وكانوا الناشرين الأوائل لرسالته. وهذه لحظةُ أصلٍ لا يوفّر الخلافُ الجسيم بين المسلمين ماجرياتِها ولكن يتوجّب عليهم استبقاؤها معياراً، في كلّ حال، ولا يمكن أن يداخلَها الريب الجذري الذي يداخل سواها لأن هذا الريب يكون إذّاك طعناً في الدين من أصله.

ما لا يتقبّله هؤلاء الذين يؤسّسون دعوة الإصلاح على دعوى تكفير الأمّة هو هذا المزيجُ الذي تمليه الحياة وتقدّمه وقائع التاريخ في صيغٍ لا تحصى ويدخل فيه أهل الدين بدينهم طائعين أو مكرَهين. هؤلاء يحسبون اختراعَ البشر المستمرّ لحياتهم بما بين أيديهم من موادّ وما يناسبهم من معايير، بعضها ديني المصدر، فساداً متمادياً للدين. هم يرون ردّةً أن يحصل ذلك في ديار المسلمين ويرون كفراً أن يحصل في ديار غيرهم. هم يرون الحياة والتاريخ برمّتهما تقريباً فساداً للدين وهم يريدون إرجاع الحياة والتاريخ إلى الجادّة. ولكن هذه الجادّة، بشهادة الأجيال والقارّات كلّها، تتعذّر استقامتها أو يتعذّر وجودها. ولم يحصل قطّ أن تمكّن الإسلام نفسه من شقّها وإلزام حياة المسلمين وتاريخهم بها في العالم الذي يحمل اسمه. فلا يبقى من احتمال ماثل، في أفق «الإصلاح» التكفيري، سوى تدمير الحياة ووقف التاريخ.

كاتب لبناني