حرب نفط أم سلطة تدور رحاها في ليبيا ما بعد الثورة. لو لم توجد أسواق مفتوحة أمام النفط الليبي المهرب، هل كانت الميليشيات والتنظيمات المتناحرة، ستهتم بالسيطرة على الحقول ومرافئ التصدير. لو لم يكن السلاح يتدفق من الداخل والخارج، هل كانت البلاد ستواجه مأزق تجريد المتحاربين، من غير القوات النظامية، من الأسلحة التي تشيع الخوف والفوضى والعنف والاضطرابات.
عجز السلطة الناشئة عن تأمين السيطرة على الموارد الطبيعية، لا يضاهيه سوى العجز عن إقامة مؤسسات ترعى أمن المواطنين ومصالح الدولة. فالحروب السياسية تكون مقبولة بين الفرقاء، إذ يختلفون في نطاق ما تسمح به تعددية الاختلاف تحت سقف الدولة الموحدة. لكنها عندما تتماهى وحروب الميليشيات بمبرر صراع الشرعية. تفسح في المجال أمام انشطار أكبر من أن يستوعبه تناقض الأفكار والمشاريع المجتمعية التي يراد إرساء قواعدها على أرضية هشة ومهددة بالانجراف.
كما الحروب والصراعات العسكرية تدار بقرارات سياسية، وإن كانت في شكل مغامرات تلوذ إليها الميليشيات والتنظيمات المسلحة، فإن الانفلات المتفشي على طول وعرض الرقعة الليبية يكاد يكون مطلوباً بقرارات أو تصورات أو حسابات لا تختلف عن الغموض الذي يلف مفهوم «الفوضى الخلاقة» التي لم ينجم عنها غير الدمار والتخريب، والإمعان في تفتيت كيان الدول، وما يصدق على خرائط الشرق الأوسط لا يجنب الشمال الإفريقي مضاعفات نظرية الانسداد الذي يولد الانفجار، ألم تصنف واشنطن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في خانة متلازمة المفاصل والأزمات؟. وإلى اليوم لم تُساعد إطاحة أنظمة ديكتاتورية بغزو القوات الأجنبية أو هدير الشوارع الغاضبة في تأمين الاستقرار، ناهيك عن العدالة الاجتماعية والحرية وقيم التقدم والانفتاح، فتلك أبعد عن متناول اليد، إلى إشعار آخر.
لا بد من إنهاك الأطراف كافة لاختزال المسافة أمام المفاوضات. ففي كل مرة تلوح بوادر بدء حوار على طريق المصالحة الغائبة، تشتغل الساحة بنيران المدافع والطائرات وتتلبد سماؤها بدخان الاقتتال المستباح لتكريس شرعية ما.
أزمة في الشرعية السياسية وأخرى في استخدام السلاح، يغوصان بما تبقى من البلاد إلى حافة الانهيار. وبعدها يصبح الخلاص، مهما كان مصدره وخلفياته «مطلباً قومياً». ولا يعني الاتجاه نحو فرض عقوبات الاتحاد الأوروبي سوى أن المرحلة باتت تحتم اللجوء إلى الكي كآخر دواء. فقد جربت الأمم المتحدة كل الوصفات الممكنة لحمل الأطراف المتناحرة على الذهاب إلى ضفاف المصالحة. وانبرت دول الجوار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فيما أخرجت الساحة كل مخزونها من آليات الصراع، من دون التوصل إلى حسم.
إذا كانت الشرعية كل لا يتجزأ، فإن التعاطي والسلطة المنتخبة يفرض نفسه على كل الليبيين قبل غيرهم. وأقرب الطريق إلى إنهاء بعض فصول النزاع يكمن في الاتفاق على دعم الشرعية، وإن استمرت الخلافات القابلة للاستيعاب في حدها الأدنى، في حال بقي الخلاف سياسياً. وعندما يبحث الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات، يطرح السؤال المحوري حول نوعيتها وقابليتها للتنفيذ والتأثير. فمن دون إحداث تغيير في موازين القوى المتصارعة ستظل مغامرات استخدام السلاح ملاذاً مشاعاً، وأفضل انضمام النخب السياسية إلى دعم الشرعية لعزل الميليشيات والتنظيمات الخارجة عن القانون، لولا أن بعضها يجد الحماية والتشجيع من فرقاء سياسيين.
أن تكون العقوبات اقتصادية وتتجه إلى تطويق تجارة تهريب النفط، فذاك عين الصواب. لأنه لولا ضخ الموارد المالية في شرايين التنظيمات المسلحة، لما استطاعت حشد المناصرين الموزعين بين تنظيمات عدة. فالتصنيف الإرهابي لبعض الحركات سيساعد في عزلها وتجفيف منابع تمويلها. لكن هل الأطراف المستفيدة من تدفق النفط المهرب في وارد الإذعان لهذا الواقع.
الأرجح أن أزمة النفط التي ألقت بظلالها على سقف الإنتاج وسعره وتوريده، سيكون لها بعض الأثر. لكن أكثر ما يدفع إلى الخشية أن تتحول ليبيا إلى ملاذات للتنظيمات المتطرفة، على خلفية تقهقرها في مناطق المجابهات المباشرة. من كان يعتقد بأن تمدد «داعش» وغيرها سيصل إلى هذا المستوى في زمن «الفوضى الخلاقة».
|