التاريخ: كانون الأول ١٤, ٢٠١٤
المصدر: ملحق النهار الثقافي
لماذا لم يكن مؤتمر الأزهر على مستوى المسؤولية التاريخية؟ - خالد غزال
ازدهرت خلال الأشهر الماضية المؤتمرات الدينية لمواجهة التطرف والإرهاب. فمن مؤتمر عُقد في تركيا في تموز الماضي، الى آخر عُقد في طهران خلال الأيام الفائتة، الى ندوات وشبه مؤتمرات انعقدت في لبنان، وصولاً الى المؤتمر الأبرز نوعاً وحضوراً الذي انعقد في الأزهر خلال الأسبوع الماضي تحت عنوان "مواجهة العنف والتطرف والإرهاب"، وضم نحواً من ستمئة رجل دين مسلمين ومسيحيين. شهدت المؤتمرات والندوات خطباً ودعوات الى نبذ الإرهاب وتبرئة الأديان منه. تشابهت الكلمات ومعها التوصيات، لكن المشترك بينها، كان تغييب الجوهري والأساسي ذي الجذر الديني الذي يغذّي الإرهاب ويشكل الأساس الإيديولوجي للتنظيمات الإرهابية وممارساتها. ليس مبالغةً وصف هذه المؤتمرات بأنها شكلية وتقع في البهرجة الإعلامية والتكاذب المشترك، في ادعاءات محاربة الإرهاب وتبرئة النفس من تهمته.

يستحق المؤتمر الذي عقد في الأزهر مناقشة خاصة لكونه الأشمل والأكثر حضوراً من حيث عدد الدول، ولجمعه بين الطوائف الإسلامية والمسيحية. افتتحه شيخ الأزهر أحمد الطيب مشدداً على أنه "لا ينبغي أن نغض الطرف عن أفكار الغلوّ والتطرف التي تسربت الى عقول بعضٍ من شبابنا ودفعت بهم الى تبني الفكر التكفيري واعتناق التفسيرات المتطرفة والعنيفة مثل تنظيم "القاعدة" والحركات المسلحة، التي خرجت من عباءتها وتعمل ليل نهار على مهاجمة الأوطان وزعزعة الاستقرار. لقد حرّف مفهوم الجهاد عند هذه التنظيمات المسلحة المتطرفة والطائفية، وراحوا يقتلون من يشاؤون زعماً منهم بأنه جهاد، وأنهم وإن قتلوا فهم شهداء في الجنة. وهذا من أشنع الاخطاء في فهم شريعة الإسلام". تناوب على الكلام عدد واسع من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، وكانت الكلمات والتعابير متشابهة تؤكد الوجهة التي حددها شيخ الأزهر. بعد الإفاضة في الكلام الجميل عن نبذ الإسلام للتطرف والإرهاب، خرج المؤتمرون بجملة قرارات وتوصيات كان أبرزها: "إدانة التطرف والتكفير واعتبارهما مقدمة للعنف والإرهاب، العمل الجاد على تصحيح المفاهيم مثل الكفر والإيمان والجهاد والدولة والخلافة وسائر المصطلحات التي دارت حولها شبهات وأدّت الى إثارة الفتن، اعتبار المسلمين أمة واحدة والعمل بكل السبل على إخماد الصراع السنّي الشيعي، اعتبار المواطنة هي المبدأ الرئيس القائم على المساواة في الحقوق والواجبات، الانفتاح على العالم للإنصاف والإنتصاف".

أربعة عوامل لم يجرؤ المؤتمر على التطرق إليها
إن اقل ما يوصف به مؤتمر الأزهر هو تغييب المسائل الجوهرية في قراءة ظاهرة الإرهاب والتطرف الممارس باسم الإسلام ومن أبناء مسلمين. لم يسقط هذا التغييب سهواً، بل تعمدته المؤسسة الدينية الأمّ وغيرها، التي رفضت تعيين واحد من أهم الأسباب في الغلو والتطرف. يمكن التوقف عند أربعة عوامل في هذا المجال، لم يجرؤ رجال الدين على مقاربتها.
العامل الأول، يتعلق بالأساس الإيديولوجي والديني الذي يتغذى منه الإرهاب باسم الإسلام. هذا الأساس يتمثل في عدد غير قليل من "آيات العنف والسيف" التي تدعو الى قتال غير المسلمين وتعتبر العالم دارَين: دار الإسلام حيث يجب أن يسود الدين الإسلامي مجمل البشرية، ودار الحرب التي تطال من يرفض الانضواء تحت لواء الإسلام. هذه الآيات نزلت في مرحلة تاريخية كانت لها ظروفها وأسبابها في تاريخ تكوّن الإسلام في مراحله الأولى والحروب التي واجهت النبي وأتباعه في دعوتهم. قد تكون هذه الآيات ومثيلاتها تحمل مشروعية قبل خمسة عشر قرناً، وهذا مألوف في سائر الديانات خلال نشوئها وتبلورها. ما ليس مفهوماً حتى الآن، أن المؤسسات الدينية، وفي مقدمها الأزهر، تمتنع عن الخوض في النص الديني وتحريره من آيات العنف وإعلانها صراحةً ان هذه الآيات ومعها الأحاديث المكمّلة، قد تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة لعصرنا الراهن بعدما زالت أسباب نزولها. هذا الامتناع عن الخوض في النص المقدس عبر قراءته قراءة تاريخية تتصل بزمان النزول ومكانه، بل باعتباره، في مجمله، صالحاً لكل زمان ومكان، هو القاعدة النظرية والفكرية التي يستند اليها الإرهاب باسم الإسلام. نطق الكثيرون من قيادات هذه التنظيمات بخطب واضحة، أنهم في أعمالهم إنما يطبقون كلام الله المنصوص عليه في القرآن، وأنهم بذلك أمينون على الدعوة الإسلامية. لا أحد ينكر ما يقوله رجال الدين المسلمون والمؤسسات الدينية عن الجانب الأخلاقي والإنساني ومحبة البشر التي يدعو اليها الإسلام، وهو كلام حق، لكنه أحادي الجانب، لأنه يتجنب الشق الآخر من الكلام الديني الإصطفائي الإقصائي والداعي الى استخدام العنف لسيادة الإسلام في العالم.

العامل الثاني في تشريع الإرهاب على يد تنظيمات الإسلام السياسي، يتصل بموقع الدين في المجتمع وعلاقته بالدولة وكيفية توظيفه في الصراعات. لم يعرف الإسلام في يوم من الأيام دولة دينية، ولم تكن السلطة السياسية من اهتماماته. فالإسلام نشأ رسالة روحية لا دولة زمنية، وكل ما يقال عن الدولة الدينية التي عرفها الإسلام على عهد الخلفاء الراشدين، لم يكن سوى أسطورة، وما يُنسب الى دولة الرسول لم يكن سوى أجوبة عن حاجات جديدة فرضها نشوء الدين الجديد، مع أن الرسول كان يخاطب قومه دائماً "بأنكم أدرى بشؤون دنياكم". لم تكن الخلافة منذ الأمويين حتى العثمانيين دولة دينية مطلقاً، بل كانت دولة استبدادية توظف الدين ورجاله في إسباغ المشروعية على السلطة وقراراتها. من الواضح أن التنظيمات الإرهابية تضع في رأس اهتماماتها إقامة دولة دينية، وليس مصادفة إطلاق "داعش" على نفسه اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام، واعتبارها أساس الخلافة الإسلامية. لم يتطرق المؤتمرون في الأزهر الى شعار الدولة الإسلامية ومدى مشروعيته والسجال ضد أن يكون الإسلام ديناً ودولة. إذا كان المؤتمرون قد تبرأوا من ممارسات "داعش" وأخواته، فإنهم لم يتبرأوا من شعار الدولة الإسلامية، الذي يدغدغ أحلام الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية، ويعتبرون هذه الدولة أحد أهدافهم لكونها تشرّع سلطة رجال الدين الزمنية والدينية. عندما يضع الدين في رأس أهدافه الوصول الى السلطة، فإن جميع الأساليب المفضية إليها تصبح مشروعة، وفي مقدمها العنف غير المحدود. لا ينفرد الإسلام بهذه الظاهرة، فقد سبقته المسيحية بقرون، ودفعت مئات الألوف من الضحايا نتيجة سعي المؤسسات الدينية وخصوصاً البابوية للهيمنة على السلطة والدولة بمختلف الأشكال. لم نسمع من الأزهر وغيره من المؤسسات نقاشاً حول الدين والدولة، وأين يقف الدين وكيف تتحدد رسالته، لأن نقاشاً في هذا الموضوع سيوصل الى الفصل بين الدين والدولة بشكل صريح كما حصل في المجتمعات المسيحية. ولعل هذا المنطق يقع في باب الهرطقة لدى المؤسسات الدينية.

العامل الثالث يتعلق بالفقه الإسلامي السائد. من المعروف أن الفقه الإسلامي تضخم على امتداد قرون، حتى طغى على النصوص الأصلية المقدسة. لم يوفر الفقه مسألة دينية أو دنيوية الا وأعطى رأيه فيها، بما جعله يتضمن أحكاماً لا تترك شاردة وواردة إلا وتقول رأياً ملزما فيها. لم يقتصر الفقه على شرح مضامين النص المقدس، بل اقتحمته الصراعات السياسية والاجتماعية، وبات لكل فرقة وطائفة فقهاؤها الذين يفتون انطلاقاً من مصالحهم السياسية، ويفسرون النصوص بما يخدم هذه المصالح. تحول الإسلام الى إسلامات، وتشعب الفقه وفق الولاء الذي يدين به الفقيه للحاكم والسلطان. ولأن الفقه، في قسم كبير من نتاجه، كان وليد التطورات الداخلية للمجتمعات الإسلامية والحاجات الى أجوبة عن أمور مستجدة، ولأنه كان أيضا نتاج الصراعات والحروب الأهلية داخلياً، والخارجية في وجه قوى سياسية وأديان اخرى، دخل الإسلام في صراع معها وفي حروب مع الأمصار الاخرى. يحوي الفقه من دون شك قضايا تتصل بالشريعة وتفسير النصوص بما يسهّل على المسلم تطبيق المبادئ الدينية، لكنه في المقابل يحوي من الفتاوى التي تتسم بتشريع العداء بين المسلمين أنفسهم، وتحض على تأجيج الصراع باسم الدين الحق الذي يمتلكه كل طرف. في المقابل يحوي الفقه الإسلامي نصوصاً هائلة من الفقه الذي يستند إلى آيات العنف والجهاد، التي تتصل بغير المسلمين وبكيفية التعاطي معهم بوصفهم ينتمون الى دار الحرب، مما يرتب استخدام العنف المشروع والمقدس ضدهم، أو في أحسن الحالات فرض الجزية عليهم.

لقد انحكم المسلمون على امتداد القرون السابقة الى أحكام هذا الفقه الى حد بعيد، وامتلأت المكتبات العربية والإسلامية بأحكامه، ودخلت كتب الفقهاء من أمثال ابن تيمية وابن حنبل وغيرهما في مناهج التعليم المتوسط والعالي. الأسوأ من ذلك كله، أن المؤسسات الدينية كرّست الفقه وكتابات العلماء بوصفها نصوصاً مقدسة توازي النص القرآني، وأن كلّ خروج عليها هو خروج على الدين يحق للمؤسسة الدينية اتهام صاحبه بالردة والهرطقة بما يحلل دمه. أنتج هذا الفقه، ولا يزال ينتج مئات الألوف من الطلاب المشبعين بروح الكراهية والعنف ضد من ينتسب الى غير طائفتهم أو مذهبهم في الإسلام، كما ضد سائر البشر ممّن لا يقولون بالإسلام. من هذه الثقافة، تخرجت عقول المتطرفين والإرهابيين على امتداد التاريخ الإسلامي، ووصلت ذروتها في القرن العشرين مع تأسيس حركة "الإخوان المسلمين" وهي الأم التي ولد من بطنها معظم تنظيمات الإسلام السياسي، ومنها "داعش" وأخواته. لقد كان لافتا أن مؤتمر الأزهر لم يتطرق الى ثقافة الكراهية والعنف التي تحويها بطون الكتب الصادرة عن الأزهر نفسه والتي تدخل في مناهج التعليم التابع له، كما تلتزمها المؤسسات الدينية في كل البلدان العربية في كتب التعليم الديني. كان يمكن مؤتمر الأزهر أن يمثّل علامة مضيئة لو أنه ولج باب إصلاح الفقه السائد الذي يتحكم به ابن تيمية المتوفى منذ أكثر من ألف عام، وكأن الزمن قد توقف عند فتاويه وأحكامه. كان يمكن مؤتمر الأزهر أن يعتبر ما يشهده العالم الإسلامي من موجات التطرف، مناسبة لإعلان مباشرة الاصلاح الديني، واعادة النظر في الفقه السائد، ووضع تشريعات وأحكام تتناسب مع طبيعة الزمن الراهن وموجباته.

العامل الرابع الذي يساعد في ازدهار التطرف والإرهاب يتصل بطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيش فيه الشعوب العربية والإسلامية. فالعرب يعيشون في منطقة غنية بالثروات على مختلف انواعها. لكن المنطقة العربية ابتليت بأنظمة استبدادية نهبت الثروات العربية ووظّفتها خلافا لمصالح شعوبها، مما جعل المنطقة العربية تحوي أضخم جيوش من الفقراء والعاطلين عن العمل والأميين والمهمشين والمسحوقين. وهذه تربة تزدهر فيها حركات التطرف والعنف، وتغرف منها تنظيمات الإسلام السياسي وحركاته الإرهابية. وكما تجاهل مؤتمر الأزهر ثقافة الكراهية ودورها، فقد تجاهل عمداً مسؤولية النظم السياسية القائمة عن ولادة "داعش" ومثيلاته.

لم يكن مؤتمر الأزهر وغيره من المؤتمرات الدينية التي عقدت حتى الآن سوى مظاهر فولكلورية سمحت لرجال الدين بإعطاء آراء تستنكر الإرهاب وتظهر بمظهر المدافع عن الإسلام ونصوصه. ليس من شك في أن الكثير من الخطباء من رجال الدين أنفسهم كانوا يمارسون ديماغوجيا واضحة ويقولون غير ما يضمرون، وفي داخلهم يتمنون انتصار "داعش" وأخواته لأنه في نظرهم سيعيد الخلافة الإسلامية ويعطيهم الموقع الذي يحرمون منه. هل نستطيع ان نأمل بعقد مؤتمرات إسلامية تطرح على جدول أعمالها الإصلاح الديني وتحرير النصوص، بما يسمح بإعادة الجوهر الروحي والأخلاقي والإنساني للإسلام، ويزيل من طريق تطوره كل ما لحق به، او ما يتسم به من نصوص كانت لها ظروفها التاريخية، بما يجعلنا أمام فقه وشريعة متوافقين مع حقوق الإنسان والمواطن بعيداً من التمييز على أساس الدين أو العرق؟ إنه حلم في طي الغيب.