التاريخ: كانون الأول ٢, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
سميرة ورزان: وقائع أسطورة معاصرة - ياسين الحاج صالح
هناك ما يحيل إلى الأسطورة في اختطاف مقنّعين لسميرة الخليل ورزان زيتونة، ومعهما وائل حمادة وناظم حمادي، في الغوطة الشرقية ليلة 9/12/2013. 
العمق الأسطوري في الواقعة ينبع من ثلاثة أشياء. أولها، التغييب التام للأربعة على نحو يذكّر بسوابق دينية محاطة بالغموض والأعاجيب. وثانيها أن رباعي المغيبين العزّل، المرأتان والرجلان، من أشجع وأنبل الثائرين السوريين، خلقاً ودوراً وتاريخاً، وهم يشكلون مثالاً لسورية مغايرة، ليس فقط لا تشبه نظام العبودية الأسدي، بل بالمقدار نفسه لا تشبه أصحاب «الوجوه الكالحة والقلوب الخاوية والعقول المقفلة»، على ما وصف علي العبدالله قبل شهور الخاطفين، وكذلك من دون شبه يذكر بالمعارضة التقليدية. وثالثها أن مرتكبي الجريمة جهة شبحية بلا عنوان، وبلا وجوه (كان الخاطفون مقنّعين). 

لدينا ثلاثة عناصر تبدو فعلاً من معدن الأساطير: الاختفاء، الخير الأعزل، والشر المحض الذي لا ملامح له.

لا يغير من هذا العنصر الأخير أن متابعي الواقعة يعرفون بدرجة عالية من اليقين هوية مرتكبيها. المهم أنه أمكن الجناة فرض تواطؤ غريب في منطقة الاختطاف على التكتم على الأمر، وعلى عدم فعل أي شيء حياله. وراء الحجاب قوة حجب فعالة، تخفي ما تريد، ولا يجد من لا يواليها مصلحة في مخاصمتها، أما من هو خصم لها فيرهبها ويتجنب مواجهتها. وعلى هذا النحو يبدو أن التغييب محروس بقوة غير مرئية، غائبة هي ذاتها بصورة ما، لكنها فعالة جداً. أليس هذا عالماً للجن والكائنات غير المرئية؟ 

ويجري هذا كله في سياق محدد بالغ القسوة، يبدو أنه يوفر للمغيِّبين الصنف المناسب من الجنون، جنون الاضطهاد تحت وطأة العدوان المستمر من طرف آلة القتل الأسدية، وجنون التفوق تحت أوهام الاعتقاد الصحيح. هذا السياق هو الصراع المديد المستعصي مع عدو متطرف في عدوانه، تتحرك سياسته وأدواته ومخيلته هو أيضاً في عالم من السر والحجب، ولا تفتقر حربه إلى عناصر الأسطورة في مداها وفي دوافعها وقدرتها على أن تكون شراً خالصاً. 

ثمة بعد ذلك استعدادات متقاربة بين خاطفي الأربعة في دوما وبين خاطفي سورية الأسديين. هناك سردية مظلومية فعالة جداً في المدينة، تستمد جذورها مما تعرض له في ثمانينات القرن العشرين سكانها من اعتقالات وتعذيب ونفي، يقول الدوامنة إنه لا يتفوق عليها في محنتها حينذاك غير حماه. هناك أيضاً حس الأقلية (دوما «عاصمة» المذهب الحنبلي في سورية، وهو أقلي جداً بين السوريين)، وما يوفره ذلك من استعداد خاص للبارانويا. وهناك تأكيد مميز على التفوق على الغير، وطلب مميز على السلطة، جعل سكان الغوطة الشرقية بالذات يطلقون على دوما اسم «القرداحة الجديدة».

في الأمر شبه ظاهر مع النواة الصلبة للنظام الأسدي. 

وإذا كلف تبطين الدولة السورية العامة بسردية مظلومية خاصة انقسام الدولة ذاتها إلى دولة باطنة لا تُرى، لكنها فعالة لما تريد، ودولة ظاهرة منفعلة ومأمورة، فقد كلف أيضاً عنفاً مهولاً، تمثل في حربين كبيرتين بينهما نحو ثلاثين عاماً، وغرضهما واحد: ترسيخ أسس نظام العبودية السياسية التي بدأ بإرسائه حافظ الأسد بانقلابه عام 1970. وحين أجبر السوريون بعد الحرب الأسدية الأولى (1979-1982) على الهتاف لجلادهم: إلى الأبد يا حافظ الأسد! كان النظام يخفي سره بإظهاره. يريد حكماً أبدياً فعلاً، ليس لعقدين أو ثلاثة، ليس لرئيس وابن، بل لأجيال وقرون، لسلالة يرث الأبناء فيها الآباء إلى أمد لا ينتهي. نحن هنا في عالم الممالك والسلطنات والسلالات، حيث تملك السلالة الحاكمة الأرض والسكان وأجهزة الحكم، وليس في عالم الدول التي يبدل حكامها كل حين. 

وليس إلى غير هذا المثال تتطلع التشكيلات السلفية: الحكم الأبدي واستئصال المغايرين والثقة بالمزايا السياسية للعنف، والتذرع بالمظلومية. وليس هناك أسباب وجيهة لتوقع أن المظلومين الجدد سيكونون أقل وحشية من المظلومين القدامى. ربما فقط يجري تحوير الشعارات الأسدية ليحل «الإسلام» محل الأسد، وليكون الإسلام حافظ الأسد الجديد. 

إذا كنا نبدو في عالم من المدركات الأسطورية وغير العقلانية، فلأننا فيه فعلاً. أليس هذا ما تبعثه في النفوس جوانب كثيرة من صراعنا المستمر منذ ثلاثة أعوام: شعارات خارقة من نوع: الأسد أو لا أحد! الأسد أو نحرق البلد! الجوع أو الركوع! ونظيراتها في دوما: «الإسلام» أو لا أحد! «الإسلام» للأبد! وقائع رهيبة مثل قصف مناطق البلد بالصواريخ البعيدة المدى والبراميل المتفجرة والطيران الحربي والسلاح الكيماوي؟ ظاهرة شبحية مثل الشبيحة؟ أشخاص غامضون مثل أولئك القادة العسكريين الدينيين، وقد كانوا سجناء عند النظام وقت تفجر الثورة، ولهم ما قبل تاريخ غامض؟ كائن خرافي لا شكل له مثل «داعش»، تحيطه السرية والغوامض من كل صوب؟ 

جريمة الخطف والتغيب مشحونة بالرمزية من جهة المخطوفين أيضاً، وليس فقط من جهة الخاطفين وظلامهم. لدينا امرأتان من جيلين مختلفين، إحداهما، سميرة، معتقلة سياسية سابقة، تمثل بصفتها هذه استمرار كفاح السوريين بين جيلين. والثانية، رزان، هي أبرز وجه من جيلها من دون منازع. الأولى علوية، تنتسب بهذه الصفة إلى جماعة توالي أكثرية منها النظام في مواجهة الثورة عليه، لكنها معارضة جاءت إلى الغوطة لأنها مطلوبة من جانب هذا النظام. وهي بذلك تمثل في شخصها الحرية، بما هي خروج على منطق الهوية والجماعة لمصلحة خيار الفرد الحر وتحمل المجازفة الخطرة. تمثل أيضاً الصفة العابرة للطوائف لكفاح السوريين. واختارت رزان الانحياز الشاق الى كفاح مواطنيها منذ البداية، وكرست هذا الاختيار في العمل اليومي الذي لا يكل طوال عامين وتسعة أشهر، حتى اختطافها بعد التعرض لتهديد بالقتل من مجهول- معلوم. 

والصفة الأهم أننا حيال امرأتين حرّتين، تبادران إلى العمل العام في بيئة محافظة باحترام لهذه البيئة، لكن من دون التخلي عن مظهرهما كامرأتين متحررتين، مظهرهما مكون لهويتهما ودورهما كممثلتين لمشروع عام مغاير. هذا يبدو تحدياً لسلطة بطريركية تخسر أساس نفوذها إن لم تمتثل لها النساء. وكان لافتاً أن مقيمين خارج سورية حرضوا عليهما بالضبط لأنهما لا تلتزمان وسم السلطة البطريركية على رأسيهما: الحجاب. 

في المظهر، وفي المثال الشخصي، وفي نشاطهما الفعلي، سميرة ورزان أمثولتان لحرية لا يطيقها المركّب العسكري الديني النافذ اليوم، ولا المعارضة التقليدية التي لم تدافع عنهما. 

والرجلان، وائل المعتقل السابق الذي تعرض لتعذيب وحشي على يد قتلة الفرقة الرابعة لماهر الأسد، والآخر، ناظم، الشاعر الذي لا يتوقف عن التفكير في قصائده، قدما بعدهما إلى الغوطة ولم يمكثا فيها طويلاً قبل الخطف. وهما شريكان للمرأتين في الكفاح الأصلي وسندان لهما. 

وهناك بعد أخير لرمزية الجريمة ينبع من طبيعة المنطقة. لعلها المرة الأولى في تاريخ بألوف السنين تنفصل فيها دمشق عن غوطتها، تقصف المدينة الواقعة تحت سيطرة سلالة إجرامية بالنار جنتها القديمة، وتفكر الجنة المتدهورة إلى ريف بائس بالسيطرة على مدينة تدير لها ظهرها وتستغلها وتجوّعها. جاءت المرأتان والرجلان من المدينة المحتلة التي فقدت مدنيتها إلى الريف المتدهور الذي فقد جنته. لم يقبلهم. كأنما يقال إنه لا مكان لأمثال سميرة ورزان ووائل وناظم، لا هنا ولا هناك، ولعل خطفهما تالياً رمز لهذا الانفصال غير المسبوق.

هذه الكثافة الرمزية ترشح تغييب المرأتين بخاصة لأن يكون جريمة تأسيسية، لا تتقادم، وتتأسس العدالة وشرائعها الجديدة على الحيلولة دون مثلها، وعلى تجريم فكر مرتكبيها وتكوينهم. 


* كاتب سوري