التاريخ: كانون الأول ١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
نكوص العقل الإسلامي وتساؤلات عن السؤال القديم! - محمد حسين أبو العلا
موجة ارتدادية يخوضها العقل الإسلامي المعاصر، موجة من موجات الفحش الفكري المجددة لمثالب الماضي وسقطاته والباعثة على استحضار ذكرى أليمة في التاريخ الإسلامي، ذكرى أحدثت انشقاقاً وتصدعاً بالغ الأثر عانت منه أمة بأسرها طيلة خمسة عشر قرناً ولا تزال تنهل لتجدد حيوتها وتألقها متدثرة بفقه التخلف.

ولعل اللحظة الآنية تعد من اللحظات الكاشفة لطبيعة هذا العقل المتراجع بفعل تبني هيكل الفكرة وشكلها ومدى وطأتها من حيث الزخرف والبريق وليس من حيث جوهرها وعمقها وتفصيلاتها واتساقها الزمني وقابليتها لإنهاض الواقع. فالأفكار الخادعة مقبولة جبراً ويراد من سريانها واستقرارها في خلايا الذات تكريس الفتنة وإشاعة البلبلة وتعميق الفرقة بما يستدني اندلاع حرب طائفية دينية وشيكة. فما المعنى الكامن وراء التلويح من فئة باغية معتدية آثمة تطلق على نفسها مجازاً «الجبهة السلفية» أن تعلن عن رفع المصاحف في محاولة يائسة لاستدرار العاطفة الدينية لدى المصريين لاستقطابهم في مواجهة متحدية مع النظام المصري، بينما هي ملفوظة دينياً واجتماعياً وسياسياً وتعمل تحت شعار «أكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس»، بينما هي استراتيجية مهلهلة مخترقة لا تنطلي على شعب أصبح لديه من طاقات الوعي الثوري ما يحجب عنه رزاز الأباطيل والخزعبلات.

هذه الدعوة غير النزيهة تفعيل غربي محض لإحياء أسباب الرجعية وإثراء بواعثها وتقوية جذور التطاحن والإبادة وإعلاء لاستقامة محاور النظريات الغربية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان واحترام الآخر وتكريساً لقيم التسامح الحضاري والألفة العولمية والرؤى الحداثية وما بعد الحداثية واستشرافاً مستقبلياً لحصاد القرن الحالي والقادم.

إن الدمية الإسلامية التي تعبث بها أنامل الكتلة الغربية هي أفعل الاستراتيجيات في مسيرة إنهاك العالم الإسلامي من داخله بأدواته وتاريخه وتراثه ونماذجه، بابتزاز ماضيه تحطيماً لحاضره ونفياً لمستقبله، لكن تكمن الإشكالية في مدى انسياق العقل الإسلامي لميكانيزماته المنسحقة والتي يمثلها الحنين لعثرات الماضي، أو المنطقة القاتمة التي لا يمكن خلالها إجترار أي نفع أو فائدة أو بعث حضاري منشود. وهو ما يتوافق مع النسق المصلحي الغربي حتى لو لم يستهدف العقل الإسلامي ذلك، لكنه يخدم الآخر على نحو ما، وهو أيضاً ما يتنافى بالطبع مع معايير العقل المعاصر الذي يأبى أن يطرح الآخر على خريطته الذهنية. من ثم أخضع العقل الإسلامي للديناميكية الغربية الصحيحة واستسلم لأبعاد الاستراتيجة القائلة بضرورة أن تحول حربك إلى حملة مقدسة ضد جيش تكره كما أكد الأميركي روبرت غرين، أحد أقطاب علم الإستراتيجية، ذلك لتظل الكتلة الغربية المسمومة تردد أنه وبكل معني الكلمة كانت الفوضى هي سبب توازننا.

وعلى ذلك، كيف يتسنى للعقل الإسلامي المعاصر أن يتبنى أفكاراً رجعية وهو يعايش مرحلة تشهد أسمى إنجازات العقل الإنساني؟ وكيف يطالب بالإحتكام للنص المقدس وهو حمال أوجه، تختلف حوله الرؤى والمنظورات إلى حد التناقض أحياناً، ذلك تأسيساً على درجة الإدراك والوعي التي هي بالضرورة متدرجة، من ثم فهي تعد مصدر الاختلاف الجذري حول تأويلية القضايا فيه؟ ثم ألم يكن الإحتكام المغرض ذات آن سبيلاً ميسراً إلى بلوغ الفتنة الكبرى من قبل؟ ولماذا تجاهل نتائج الفتنة وقد تشابهت ملامحها؟ وكيف لهذا العقل أن يركن إلى أفكار بائدة كانت ذات انعكاسات سلبية على أحقاب التاريخ الإسلامي جمعاء؟ ولماذا تقتصر جدليات هذا العقل على القضية العقائدية ولا تمتد إلى جدليات القضايا العلمية والفكرية والفلسفية وغيرها من المسارات المعرفية؟

لكن جوهر السؤال القديم وباطنه في القضية ذاتها هو: كيف يمكن توظيف وإستخدام النص المقدس كذريعة وأداة في محاربة الآخر ونسفه بينما كان ظاهره يجسد ملامح التقوى والورع والتبتل حين استنكر متسائلاً: هل يمكن الاحتكام إلا إلى المصحف؟ وكان من جرائر هذا السؤال سفك الدماء وانتهاك الحرمات وإزهاق النفوس والقضاء على الخلافة الراشدة وفرقة المسلمين وتأسيس ملك عضوض لا يقوم على الدين وإنما يقوم على السياسة.

إن العداوة التي يضمرها العقل الإسلامي لذاته هي أشد فتكاً وضراوة من كل القوى المتربصة التي تطوعه في مسار نزع القدسية عن دينه ومقدساته وشخصيته وطموحه وتجره نحو التقوقع والإنغلاق... لكن بشرطيات يختارها!

* كاتب مصري